للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[وقفة مع الإمام الشافعي]

الشافعي: إمام العباقرة، وعبقري الأئمة، له في العلم سبب، وفي البيت نسب، وفي المروءة حسب.

سالت قريحته فتفجرت أنهار الحكمة من على لسانه، وساقت رياح التوفيق سحب علمه فسالت أودية بقدرها، ذاكرته أصابها وابلٌ فآتت أكلها ضعفين.

الشافعي: أخذ من الأثر روحه، ومن الفقه خلاصته، ومن البيان ناصيته، ومن الشعر حلاوته، ومن المجد ذروته.

قعَّد للعلماء القواعد فغضب عليه أعداء الشريعة، لأنهم رضوا بأن يكونوا مع القواعد، فخرت به قريش، وتبجحت به العراق، وخرجت إليه مصر، حاور محمد بن الحسن فقطع أزراره، ورد على المريسي فأطفأ ناره، وجاور أحمد فشكر جواره.

الشافعي: لدنيا العلوم شمس، ولأبدان الأخيار عافية، ولليل المدلهمات قمر، للشرع شعره، للحق بذله، للآخرة طلبه، لله سعيه، لما خرج إلى البلاد لبست بغداد الحداد وأمست في سواد، الألفاظ سكر، والقصيد درٌ نضيد.

حفر لحداً للملاحدة، وعزل في زنزانة الإحباط المعتزلة، ورد الأباطيل في وجوه أهل التعطيل، إن سألناه عن أهل الكلام فبالجريد والنعال، وأهل السنة رواد الجنة، والفلاسفة أهل سفه، ومالك نجم الممالك، وأحمد بن حنبل زرع سنبل.

أتاه المال ففر منه إلى العلم، وأتته الدنيا فهرب إلى الآخرة، تعلم الفراسة في اليمن، فكشف أهل الزيغ والأفن، تدجج بالحجج فألجم الدجاجلة، وصال بالأصول على أعداء الرسول، درس الطب فمرض جسمه، وداوى الناس فزاد غنمه.

المروءة عنده:

ولولا الشعر بالعلماء يزري

التواضع:

أحب الصالحين ولست منهم

ميزة الشافعي التفرد، ومنقبته التجرد، تفرد في الفهم فعصر من زهر الذهن رحيقاً، وتجرد للحق فنسج من بز الشريعة ثوباً سابغاً، فاح طيب ذكره في الأنوف فيا فرحة من شم! وهزم الباطل فكأنه شم عطر منشم، الشافعي شهابٌ ثاقب، أحرقت به شياطين الإنس ولهم عذابٌ واصب، مسكينٌ من جادل الشافعي وناظره، مسكينٌ من عارضه وكابره، مسكينٌ من عرفه وما ذاكره.

درس محمد بن إدريس علوم محمدٍ صلى الله عليه وسلم فترك علماً لا يغسله الماء، ولا تطفئه الريح، ولا يلفه الظلام، ولا ينسيه الدهر.

الرسوخ في يسر، العمق في سهولة، الأصالة في إشراق، البراعة في نصوع، أهل فارس يعرفونه، وأهل الصين يذكرونه، وأهل الأندلس يمدحونه، وأهل الباطل يبغضونه.

إذا مرجت الآراء بزغ رأي الشافعي كالنجم الثاقب، إن تكلم أسكت الخطباء، وإن أنشد صمت الأدباء، أحب الملة فأمهرها روحه، وعشق العلم فأعطاه عمره، وأخلص الرسالة ففاضت لها نفسه، فهو عاشق المثل، سامي المقاصد، رجل المروءات، ناشر السنة بين أهلها، وناصرها على أعدائها، وحافظها لمحبيها، وشارحها لناقليها.

إذا ارتحل بكى المحل، إذا انتقل شيّعته المقل، أنار بالوحي عقله، وجمع علم من قبله، وقال معاصروه: ما رأينا مثله.

وإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دمِ الغزال

ورث أنوار الرسالة فألف للأمة الرسالة، مات أبوه فكفلته الأم، فقدم للناس كتاب الأم، إذا نطق الشافعي فكأن السيل أقبل، والفجر بزغ، والنور سطع، صحة مخارج، حلاوة لفظ، قوة حجة، براعة دليل، سلامة إنشاء، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

في الفقه إمام، في النقل حجة، في النسك علم، في اللغة أستاذ، في الذكاء آية، سارت به أمه من غزة فسبحان الذي أسرى، وعاش في مكة لينفع أم القرى.

الشافعي لم يستند إلى النسب ولو أنه مُطَّلبي، وإن يتكل على الجاه فهو أبي، ولكنه أخذ بأسباب الخلود، وهجر أسباب الفناء، فأمات في حياته النفس الأمارة، وأحيا بوفاته النفس المطمئنة، فنوديت: ارجعي إلى ربك راضية مرضية.

إذا كانت الحياة في البساط والسياط والسلطة والسطوة، فأين أصحابها بعد موتهم {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} [مريم:٩٨]؟

عاصر الشافعي خمسة ملوك، عاشوا أغنياء وهو فقير، هم في حشمٍ وخدم وهو في غربة وعزلة، بقي وذهبوا، ذكر ونسوا، عاش وماتوا؛ لأنه أمات الدنيا في حياته، وأحيا الآخرة قبل وفاته، وهم أشربوا في قلوبهم عجل العاجلة، وأخروا في بطاقة أعمالهم الآخرة، ورضوا بأن يكونوا مع الخوالف.

عند الشافعي اتباع الأثر عبادة، الوقوف مع النقل عقل، توقير الصحابة عقيدة، رد الشبه جهاد، تعليم الناس ربانية، ترك المعاصي هجرة، أهل الحديث رءوس، المبتدعة سفلة، علم الكلام غي، المنصب ذل، الدنيا دنيئة.

بدا إلى البادية فهز شعر هذيل، احتسى علم مالك ومص فهم أبي حنيفة، وجمع بين النثر والشعر، والرواية والدراية، والعقل والنقل.

الشافعي عروبةٌ حجازية، وفصاحةٌ عراقية، ورقة مصرية، أعجب ما فيه روح التجديد في المذهب القديم، وقدم التأصيل في مذهبه الجديد.

سخر الشعر للشريعة، والنحو للوحي، والرأي للرواية، والتعليل للتأويل، حملته الهمة فأضناه الطلب، وخلع الدنيا فلبس تاج القبول، خاف الدنيا والدنايا، وجانب الشيطان والشر والشهوة والشبهة، إن خطب أطرب وأطنب، وأتى بكل أطيب، وإن أفتى شفى وكفى وأوفى.

فلج خصوم الإسلام، ونكّس رايات الأقزام، وأبقى ذكره للأيام، دمغ الضلال، واكتسح الجُهال، وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال.

انكسر به ظهر الجبرية، وثلم به قدر القدرية، وأخرجت حججه شبه الخوارج، واهتز بيده سنان السنة.

<<  <  ج: ص:  >  >>