للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من وسائل كشف الكربة: العلم بأن الدنيا فانية]

ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة: العلم بأن الدنيا فانية زائلة، كل ما فيها يتغير ويحول ويضمحل ويفنى ويزول؛ لأنها إلى الآخرة طريق، وهي مزرعة للآخرة على التحقيق، إنها ألم يخفيه أمل، وأمل يحققه -بإذن الله- عمل، وعمل يقطعه الأجل، وعندها يُجزى كل امرئٍ بما فعل.

إنها الدنيا إن حَلَتْ أَوْحَلَتْ، وإن كَسَتْ أَوْكَسَتْ، وإن دَنَتْ أَوْدَنَتْ، وكم من ملكِ فيها رُفعت له علامات فلما علا مات.

هي الأيام لا يبقى عزيز وساعات السرور بها قليله

إذا نشر الضياء عليك نجم وأشرق فارتقب يوماً أُفُولُه

إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن سرَّت يوماً أحزنت شهوراً، وإن متَّعت يسيراً منعت طويلاً.

لا يبقى لها حبور ولا يدوم فيها ثبور

اليوم عندك دلُّها وحديثها وغداً لغيرك كفُّها والمِعصمِ

قال الله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:٢٠] ما أدقَّ التعبير القرآني! يوم يشير إلى أن الحياة الدنيا يوم تُوزن بموازين الدنيا تبدو أمراً عظيماً هائلاً ضخماً، لكنها حين تُقاس وتوزن بموازين الآخرة تبدو شيئاً تافهاً زهيداً حقيراً، بل هو لعبة أطفال بالقياس إلى ما في الآخرة من جد تنتهي إليه المصائر بعد لعبة الحياة الدنيا، لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر، ثم تأتي الصورة القرآنية المبدعة لتصور الدنيا كزرع يعجب الزُّراع نباته، ينمو شيئاً فشيئاً حتى يكتمل، ثم يهيج، فتراه مصفراً جاهزاً للحصاد؛ فهو موقوت الأجل ينتهي عاجلاً، ويبلغ أجله قريباً، ثم يكون حُطاماً، وينتهي شريط الحياة بمشهد الحُطام، ويا لها من نهاية!

وأما الآخرة فلها شأن وأي شأن! يستحق شأنها أن يُحسب حسابه، ويُنظر إليه ويُستعد له: {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:٢٠] فهي لا تنتهي في لمحة كالحياة الدنيا، وهي لا تنتهي إلى حطام كالنبات البالغ أجله؛ بل حساب وجزاء ودوام يستحق الاهتمام.

{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:٢٠] متاع يستمد قوامه من الغرور الخادع يُلهي وينسي، وينتهي بأهله إلى غرور خادع؛ فما أحوج المؤمن إلى الاستعلاء على هذا الغرور الخادع ليحقق عقيدته، ولو اقتضى أن يضحي بالحياة الدنيا جميعها؛ فما هي إلا حطام أو كظلٍ أو سراب.

روى الترمذي وابن ماجة بإسناد حسن قال: قال صلى الله عليه وسلم: {مالي وللدنيا! إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب قَالَ في ظل شجرة، ثم راح وتركها}.

أحلام نوم أو كظلٍ زائلٍ إن اللبيب بمثلها لا يُخدعُ

يقول بعض أهل العلم: لَنِعَم الله علينا فيما زوى عنا من الدنيا أفضل من نعمه منها فيما بسط لنا فيها؛ ذلك أن الله لم يرضَ لنبيِّه الدنيا؛ فلأن أكون فيما رضي الله لنبيه وأحبَّ له أحبُّ إليّ من أن أكون فيما كره له وسخط.

وأجمل بقول ابن القيم -عليه رحمة الله- من قول، يوم قال يشبه الدنيا: أشبه الأشياء بالدنيا الظل تحسب له حقيقة ثابتة، وهو في تقلُّص وانقباض، تتبعه لتدركه؛ فلا تلحقه.

وأشبه الأشياء بالدنيا السراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، ووجد الله عنده فوفَّاه حسابه والله سريع الحساب.

وأشبه الأشياء بالدنيا المنام يرى فيه العبد ما يحب وما يكره؛ فإذا استيقظ علم أن ذلك لا حقيقة له.

ترجو البقاء بدار لا ثبات لها فهل سمعت بظل غير منتقل

حياتها رصدٌ وشربها كدرٌ وعيشها نكد وملكها دُوَلُ

من ذا الذي قد نال راحة فكره في عسره من عمره أو يُسره؟

يلقى الغني لحفظه ما قد حوى أضعاف ما يلقى الفقير لفقره

فيظل هذا ساخطاً في قُلِّه ويظل هذا ناصباً في كُثرهِ

سُنَّ البلى ولكل شمل فرقة يُرمى بها في يومه أو شهره

والجن مثل الإنس يجري فيهم حكم القضاء بحلوِه وبمرِّه

أوَما ترى الرجل العزيز بجنده رهن الهموم على جلالة قدره

فيسرُّه خير وفي أعقابه همٌّ تضيق به جوانب صدره

وأخو التجارة لاهث متفكر مما يلاقي في خسارة سعره

وأبو العيال أبو الهموم وحسرة الـ رجل الوحيد كمينة في صدره

ولرُبَّ طالب راحة في نومه جاءته أحلام فهام بأمره

والطفل من بطن أمه يخرج إلى غُصَص الفطام تروعه في صُغره

ولقد خبرت الطير في أوكارها فوجدت منها ما يُصاد بوكره

والوحش يأتيه الردى في برِّه والحوت يأتي حتفه في بحره

ولربما تأتي السباع لميت فاستخرجته من قرارة قبره

تالله لو عاش الفتى في دهره ألفاً من الأعوام مالك أمره

متلذذاً معه بكل لذيذةٍ متنعماً بالعيش مدة عمره

لا يعتريه النقص في أحواله كلا ولا تجري الهموم بفكره

ما كان ذلك كله في أن يفي بمبيت أول ليلة في قبره

كيف الفعال أيا أخي فيما ترى صبراً على حُلوِ القضاء ومرِّه

صبراً فغمسة في الجنة تُنسي كل شقاء وبؤس وبلاء، وغمسة في النار -عياذًا بالله- تنسي كل لذة ونعيم.

لكل شيء إذا ما تمَّ نقصان فلا يُغَرُّ بطيب العيش إنسان

هي الأمور كما شاهدتها دول من سرَّه زمن ساءته أزمان

كم من مؤملٍ أدركه الموت قبل تحقيق أمله! وكم من زرعٍ عاش ومات زارعه! فاسمع:

لما حضرت الوفاة سيبويه النحوي -رحمه الله- وضع رأسه في حجر أخيه، ثم أغمي عليه، فقطرت قطرة من دموع أخيه على خده، فأفاق من غشيته متمثلاً بقول القائل:

يؤمِل دنيا لتبقى له فمات المؤمِل قبل الأمل

وبات يروِّي أصول النخيل فعاش النخيل ومات الرجل

ثم قال لأخيه: أخيين كنا، ففرق الله بيننا إلى الأمد الأقصى، ومن يأمن الدهر، ثم لقي الله عز وجل.

هذه هي الحياة الدنيا، والآخرة هي الحياة لو كانوا يعلمون.

إنما الدنيا هبات وعَوارٍ مستردة شدة بعد رخاء ورخاء بعد شدة