للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أحوال الناس مع الدعوة إلى الله]

غاد آخر يغدو لإهلاك نفسه، فيسلط قلمه، ويسلط لسانه، ويسلط سنانه -أعلى المجوس؟ أعلى اليهود؟ أعلى النصارى؟ ليس على هؤلاء كلهم وإنما يسلطها- على إخوانه المسلمين، ويا له من غاد أوبق نفسه، يسخر بالمسلمين، ويستهزئ بدين الله، ويستهزئ بآيات الله؛ ليرتكب جريمة هي أعظم جريمة، ويا ليتها تكفي لوحدها! لكن هي دعوة إلى ضلال، قد يتبعه غيره، فيكون عليه هذا الوزر، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، وما أكثر دعوات الضلال!

-يا أيها الإخوة- ما أكثر الذين يسخرون بدين الله في هذا الوقت، ويحاولون إنقاص رجال العلم والتقوى في نظر الناس، ليفقدوا أهميتهم عند الناس، فيضل الناس، ما أكثر هؤلاء! لكن نقول لهم: ليبوءوا بالكفر، من مات بغيظه منهم له كفن.

يطالعنا أحدهم ويغدو ليخرج ما في جعبته من السموم التي أبت إلا أن تخرج، أبى النفاق إلا أن يلقي براقعه إذ حان حين الواقعة، يخرج أحدهم ليكتب ما سمعتم وما تسمعون، ويخرج الآخر ليقول:

لم يبق من كتبِ السَّماءِ كتابُ مات الإله وعاشت الأنصابُ

جل الله تبارك وتعالى، هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم.

ويغدو الآخر ليسخر بدين الله، ويسود الصفحات بالسخرية بدين الله - جل وعلا- ممثلاً في رجال الحسبة، رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذين لا زالوا يرقعون ويسدون في سفينة نجاة الأمة، وهؤلاء يخرقون كل يوم خرقاً.

نقول لهؤلاء: اتقوا الله جل وعلا إن كنتم تعلمون أنكم ستعودون إلى الله، عودوا إلى الله جل وعلا ويا ليت هذا الكلام كان من غيرهم، لكن نقول -يا أيها الإخوة- ما قال القائل:

ولو أني بُلِيتُ بهاشمي خؤولته بنو عبد المدانِ

لهان علي ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني

إذا عيَّر الطائي بالبخل مادر وعير قساً بالفهاهة باقل

وقال السُّها للشمس أنت كسيفة وقال الدجا للبدر وجهك حائل

فيا موت زر إن الحياة ذميمةٌ ويا نفس جدي إن دهرك هازل

إن الاستهزاء بآيات الله كفر وأي كفر.

تعلمون وقعة تبوك، وماذا كان موقعها؟ وماذا كانت المسافة فيها؟ وماذا كان الجو في تلك الموقعة؟ يخرجون من المدينة في شدة الحر، وفي مفاوز في صحاري يبيد فيها البيد، ويضيع فيها الذكي والبليد، يقطعون الفيافي والقفار تحت حرارة الشمس، ما معهم إلا الدواب التي تعرفون، أصابهم الجوع حتى إن أحدهم في ليلة من الليالي، قام ليبول فبال على جلد فأحس أنه جلد، فنفضه من البول، وأحرقه وأكله من شدة الجوع، سبعمائة كيلو متر يقطعونها في تلك الفيافي والقفار.

وبعد هذا كله تقوم مجموعة منهم فتقول: تعالوا نقطع الطريق بالحديث، نتكلم ونتسلى، نخوض ونلعب كما يقولون، فماذا قالوا؟ قالوا: ما رأينا كقرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أجبن عند اللقاء، يعنون النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، والكلام يتجدد ويتجدد، وسودت به الصفحات في هذه الأيام: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:٥٣] ماذا كان منهم؟ كان منهم أن جاء الخبر من السماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بالوقعة، وأعلن كفرهم من فوق سبع سماوات: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:٦٥ - ٦٦] وكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.

وآخر يغدو ليعتق نفسه، فيدعو الناس إلى توحيد الله، يدعو بقلمه، ويدعو بلسانه، ويدعو بهيئته، يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، يهدي الله به الضال، فيكون له مثل أجره لا ينقص من أجر ذلك شيء: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:٧١] أعتقوا أنفسهم، وغدوا في عتق أنفسهم.

وكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.