للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قصة العابد والمرأة البغي]

هاهي امرأة بَغِيّ، بارعة الجمال، لا تمكن من نفسها إلا بمائة دينار، وتمر على عابد ما عصى الله طرفة عين، يتعبد لله في صومعة من الصوامع، فيفتتن بها، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فاتقوا الدنيا واتقوا النساء} افتُتن بها فراودها عن نفسها، فأبت أن تمكنه إلا بمائة دينار، وهو لا يملك ريالاً ولا ديناراً ولا درهماً، فماذا كان منه؟ كان منه أن ترك صومعته وذهب يكدُّ ويتعب، وجمع المائة الدينار.

ثم ذهب إلى هذه البغي في بيتها وفي قصرها، طرق عليها الباب، ويوم طرق عليها الباب خرجت، ويوم خرجت قال لها: هأنذا، قد جمعت المائة دينار وجئت، قالت: ادخل.

فدخل إليها في قصرها، فَعَلَتْ على سرير من ذهب، وتزينت في كامل زينتها، ويوم تزينت في كامل زينتها قالت: هلمَّ إليّ، فسقط جالساً.

قالت: قد كنت تزعم أنك ستجمع وتأتي، فلما مكنتك من نفسي تجلس، قال: ذكرت وقوفي بين يدي الله -عز وجل- فلم تحملني أعضائي لأقف، فما كان منها هي أيضاً إلا أن ارتعدت وارتعشت وخافت ووجلت وقالت: لا تخرج من هذا البيت حتى تتزوجني، قال: لكني والله لا أتزوجك، وإنما خذي هذه الدنانير ودعيني أخرج، قالت: لا تخرج حتى توافق على الزواج مني، فماذا كان منه؟ قال: بلدي في المكان الفلاني، وعلك إن جئت تائبة لعلي أن أتزوجك، وهو يريد الخلاص منها.

أما هو فذهب وخرج نادماً على تفكيره في عمل المعصية، نادماً على تركه العبادة ليجمع المائة دينار ليزني بها، كما يفعل بعض شبابنا اليوم -هداهم الله- يوم يجمعون دراهمهم ودنانيرهم ليذهبوا ليعصوا الله في بلاد الكفر والعري، ثم يرجعوا وكأن لم يكن شيئاً، وكأن الله -عز وجل سبحانه وبحمده وله العزة والجلال- كأنه لا يراقبهم إلا في جزيرة العرب.

أما هي فأقلقتها بشاعة الفاحشة، وآلمتها مرارة الكبيرة، ولسعتها مرارة المعصية، وما كان منها إلا أن رجعت إلى الله، وتابت إلى الله، وذهبت تبحث عمن كان سبباً في توبتها إلى الله جل وعلا، ذهبت إليه في قريته، وسألت عنه، فدُلَّت على بيته، فلما وصلت إلى البيت طرقت الباب فخرج، فتذكر يوم كادت تزل قدمه، فشهق شهقة عظيمة فمات -كما ذكر ذلك ابن قدامة في كتابه التوابين -.

فكان منها أن حزنت حزناً عظيماً، وقالت: لأتزوجنَّ قريباً من أقربائه حباً فيه، فقالوا: له أخ فقير تقي، قالت: أتزوجه حباً في أخيه، فتزوجت هذا العبد الصالح الفقير التقي أخو ذلك الصالح التقي، فجعل الله من نسلها ومن نسله سبعة من الصالحين العابدين الزاهدين.

فلا إله إلا الله! ما أعظم شأن التوبة! وكلنا ذوو خطأ، فهل من توبة؟ وهل من أوبة؟ آن لنا أن نتوب، آن لنا أن نئوب.

أيها الأحبة.

قد يدَّعي الإنسان التوبة ثم لا يتوب، إن ذلك كقول غاسل الثياب: قد غسلتها ولم يغسلها بعد، فالقول لا ينظف الثياب، وادِّعاء التوبة لا ينظف القلوب، والنفس البشرية كالطفل إن أهملتها ضاعت وضلت وخسرت وتاهت، وإن هذبتها وأدَّبتها صلحت واستقامت، بل هي كالبعير إن علفته وغذيته سكن وثبت، وإن تركته صدَّ وندَّ وهرب، والنفس بطبيعتها تميل إلى الشهوات، وتميل إلى الملذات، ووالله لا فلاح لنفس ولا نجاح ولا فوز إلا بالعودة إلى بارئها سبحانه وبحمده القائل: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس:٩ - ١٠].

والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمْه ينفطمِ

خالف هواك إذا دعاك لريبة فلرب خير في مخالفة الهوى

حتى متى لا ترعوي يا صاحبي حتى متى وإلى متى وإلى متى