للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[همة سفيان بن عيينة في طلب الحديث]

وهاهو سفيان بن عيينة رحمه الله يقول: كان أبي صيرفيّاً بـ الكوفة، فركبه الدَّيْن، فحملنا إلى مكة، وأنا يومئذ صبي - سفيان لا زال صبياً- يقول: وسرنا إلى المسجد لصلاة الظهر، ولما كنت على باب المسجد، إذا شيخ على حمار، هيئته هيئة صاحب حديث، فقال لي: يا غلام! أمسك عليّ هذا الحمار حتى أدخل المسجد، فأركع.

قلت: ما أنا بفاعل حتى تحدثني.

قال: وما تصنع أنت بالحديث؟ واستصغرني وردني، فقلت: حدثني أو لا أمسك لك الحمار.

قال: فسرد علي ثمانية أحاديث بأسانيدها، فأمسكت حماره، وجعلت أكرر ما حدثني به.

فلما خرج من المسجد، قال: ما نفعك ما حدثتك به يا غلام! قد حبستني عن الصلاة.

فقلت: حدثتني بكذا وكذا وكذا.

وسردت عليه جميع ما حدثني به، فقال: بارك الله فيك، تعال غداً إلى مجلسي.

فإذا هو عمرو بن دينار المحدث المعروف.

اسمع بعدها لـ نصر الهلالي يوم يقول: كنت في مجلس سفيان بن عيينة، إذ دخل علينا صبي صغير ذلك المجلس، فكأن أهل الحديث تهاونوا به لصغر سنه، فقال سفيان مغضباً من أهل الحديث: كذلك كنتم من قبل فمنَّ الله عليكم.

ثم قال سفيان: يا نصر! -ويتكلم الآن عن نفسه سفيان وهو صغير- لو رأيتني ولي عشر سنين، طولي خمسة أشبار، وجهي كالدينار، وأنا كشعلة نار، ثيابي صغار، أكمامي قصار، ذيلي بمقدار، نعلي كآذان الفار، أختلف إلى الزهري وعمرو بن دينار، وأمثالهم من علماء الأمصار، أجلس بينهم كالمسمار، محبرتيِ كالجوزة، ومُقلتي كالموزة، وقلمي كاللوزة، فإذا دخلت المجلس قالوا لي: أوسعوا للشيخ الصغير.

لو رأيتني يا نصر! حين ذاك لَمَا احتقرتَ ما رأيتَ.

مَن يَجعَل الرَّحمنَ مَقصِدَ قَلبِهِ يَبقَى شَريفاً فِي الحَياةِ نَزِيهَا

ويذكر الخطيب البغدادي رحمه الله عن علي بن عاص، قال: دفع إليَّ أبي مائة ألف درهم، وقال: اذهب فلا أرى لك وجهاً إلا بمائة ألف حديث -هكذا تكون الولاية- فهجر الوطن والأهل، وضحى بماله ووقته وجهده، وحصل على أكثر مما طُلب منه، فصار يُحدث ويُسمع منه.

وهذه أهديها لأولياء الأمور، وأقول لهم:

إنْ كُنتَ تَرجُو أنْ تُصيبَ رَميَّةً فَاثقِفْ سِهَامَكَ قَبلَ أنْ تَرمِيهَا

كَذاكَ الفَخرُ يَا هِمَمَ الرِّجَالِ تَعالَيْ فَانظُرِي كَيفَ التَّعَالِي