للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكيم وإنفاقه في سبيل الله]

ثم انظر أخرى فإذا أنت بآخر، إنه حكيم، يسلم إسلاماً يملك عليه لبَّه، ويؤمن إيماناً يخالط دمه، ويمازج قلبه، وهو يقطع على نفسه عهداً أن يكفر عن كل موقف وقفه في الجاهلية، أو نفقة أنفقها في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأضعاف أضعافها، وقد بَرَّ في قَسَمِه، وصدق فيما عاهد.

فإذا بك تنظر فإذا حكيم قد آلت إليه دار الندوة التي كانت تعقد قريش مؤتمراتها فيها في الجاهلية، ويجتمع ساداتها وكبراؤها فيها ليأتمروا برسول الله صلى الله عليه وسلم، تخيله وهو يتخلص من تلك الدار مسدلاً الستار على ماض بغيض أليم، ويبيعها بمائة ألف درهم، فيقول فتى من قريش: بعت مكرمة قريش يا حكيم! فقال: [[يا بني! ذهبت المكارم كلها ولم يبقَ إلا التقوى، أو ما يسرك يا بني! أن أشتري بها داراً في الجنة؟ إني أشهدكم أني جعلت ثمنها في سبيل الله؛ أرجو ذخرها وبرها عند الله]] وربح البيع.

ثم انظر إليه أخرى يوم يحج بعد ذلك فيسوق أمامه مائة ناقة مجللة بالأثواب الزاهية، ثم ينحرها جميعها؛ تقرباً إلى الله تعالى.

ولا تعجب يوم يحج ثانية فيقف في عرفات، ومعه مائة من عبيده، قد جعل في عنق كل واحد منهم طوقاً من فضة، نقش عليه عتقاء لله عز وجل ثم يعتقهم جميعاً على عرفات؛ ويسأل الله عز وجل أن يعتق رقبته من النار.

ثم يحج ثالثة فيسوق أمامه ألف شاة، ثم يريق دماءها كلها في منى، ويطعم بلحومها فقراء المسلمين؛ تقرُّباً لله -عزَّ وجلَّ- فلا تنساه البطون الجائعة، ولا الأكباد الظامئة، ما دام على الأرض بطن جائع أو كبد ظمأى.

يا ناعمَ العَيشِ والأموالُ بائدةٌ أين التبرعُ لا ضَاقتْ بكَ النِّعَمُ

كان المال في يده لا يدور عليه الحول حتى ينفقه في سبيل الله.

لا يألفُ الدرهمُ المضروبُ صُرَّتهم لكِنْ يمرُّ عليها وهو يستبقُ

كبر حكيم بعد أن قدم ما قدم، وذهب بصره فاحتسبه لله، ونزل به الموت، واشتد وجعه، وإذ به يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله ويقول: [[أخشاك ربي وأحبك، أخشاك ربي وأحبك]]؛ ليلقى الله.

رضي الله عنه وأرضاه، وجعل أعلى علِّيين مثواه، ورحم الله أولئك الرجال، طلبوا الدنيا على قدر مكثهم فيها، وطلبوا الآخرة على قدر حاجتهم إليها، لم يضحوا بأموالهم فحسب، بل ضحوا بدمائهم في سبيل الله؛ رجاء ما عند الله، وما عند الله خير للأبرار {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:٩٦].