للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أقوال في العفو والصفح عن الآخرين]

صدقوا ما عاهدوا: فعفوا وصفحوا.

وهبوا النقص للفضل، والإساءة للإحسان، فصفت سرائرهم، ونصعت سيرهم، وسلمت صدورهم، ولهجت أنفسهم: {لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:١٠] كل ذلك يرجون ما عند ربهم.

يقال لأحدهم: إن فلاناً من الناس يقع فيك، فيقول: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:٤٣] {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:٧٦].

ثم يقال له أخرى وقد ظُلم وبُهِت وسُبَّ وشتم: ألا تدعو على من ظلمك وسبك وشتمك؟ فيقول: من دعا على ظالمه فقد انتصر، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {اصبروا حتى تلقوني على الحوض}.

يُسبُّ أحدهم ويشتم بما ليس فيه فيقول: إن كنت صادقاً فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك.

ويقال للثالث: إن فلاناً يقع فيك ويقول فيك كذا وكذا، ويذكرك بسوء، فيقول: رجل صالح ابتلي فينا فماذا نعمل؟! من تعدى حدود الله فينا لم نتعد حدود الله فيه، العفو أفضل، لا ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك، فتعفو وتصفح وتغفر فيغفر الله لك.

أيها الأحبة: إن مكانة المؤمن أعز من أن يتساوى في الظاهر مع ظالمه، بل يرى أن من الدين والمروءة أن يدعى إلى أن يشمخ على من يبدي الإسفاف، ويترفع عن موقف يقوده إلى رفع صوت أو إثارة فضول أو جدل أو لجاج، وبعضنا -ويا للأسف- يتخذ أخاه هدفاً ويجمع الجموع ليرجموه معه، ترى بعضنا يرفع ويخفض، ويجرح ويعدل ويشي.

وليس مَلامِي عَلَى مَنْ وشَى ولكنْ ملامي عَلَى مَنْ وَعَى

اللوم على من يمنح الآذان الصاغية للوشاة، ولأولئك أقول: وا أسفاه يوم تسود صحف التفاضح، ويوم تسترخى بيننا أيدي التصافح، ليست المنزلة -والله- بأن تنال لقباً بتجريح إخوتك، إنما المنزلة أن تحتل في قلوب المؤمنين حيِّزاً، وأن تنادي ملائكة السماء أهل الأرض: أن أحبوا فلاناً.

صدقوا ولم نصدق: قلوب امتلأت بخشية الله، وقلوب امتلأت بمحبة الله، ترجو ما عند الله، لا تتسع لحقد أو ضغينة أو حسد لخلق الله، بل -والله- كانوا مشفقين على عباد الله؛ يعلمون الجاهل، وينبهون الغافل، مغتنمين كل فرصة، مستفيدين من كل مناسبة.

يمر أبو الدرداء بجماعة تجمهروا على رجل يضربونه ويشتمونه، فقال لهم: ما الخبر؟ قالوا: وقع في ذنب كبير، قال: أرأيتم لو وقع في بئر أفلم تكونوا تستخرجونه منه؟ قالوا: بلى.

قال: فلا تسبوه ولا تضربوه، لكن عِظُوه وبصِّروه، واحمدوا الله الذي عافاكم من الوقوع في مثل ذنبه.

قالوا: أفلا تبغضه؟ قال: إنما أبغض فعله، فإذا تركه فهو أخي، فأخذ الرجل ينتحب ويعلن توبته وأوبته، ليكون في ميزان أبي الدرداء -رضي الله عنه- يوم يقف بين يدي الله: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:٢٢] {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن:١٤].