للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حقيقة الربح والخسران]

الحمد لله، قضى ألا تعبدوا إلاَّ إيَّاه، لا مانع لِمَا أعطاه، ولا رادَّ لِمَا قضاه، ولا مظهر لما أخفاه، ولا ساتر لما أبداه، ولا مضلَّ لمن هداه، ولا هاديَ لمن أعماه، سبحانه خلق آدم بيده وسوَّاه، وأمره ونهاه، ثم تاب عليه ورحمه واجتباه، حاله ينذر من سعى فيما اشتهاه.

طرد إبليس فأصمَّه وأعماه وأبعده وأشقاه، وفي قصَّته نذير لمن خالف الله وعصاه.

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أخذ موسى من أمِّه طفلاً ورعاه، وساقه إلى حِجْر عدوِّه فربَّاه، وجاد عليه بالنِّعم وأعطاه، فمشى في البحر وما ابتلَّتْ قدماه، وأهلك عدوَّه بالغرق وَوَارَاه، خرج يطلب ناراً فشرَّفه الله وناداه.

{إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي} [طه:١٤].

حمداً لمن نبيه قد بعثا فدوَّخت بعوثه مَن قد عثا

ثم الصلاة والسلام ما حكت حمائم حمائماً إذا بكت

وهزَّت الغصون أنفاس الصبا فهيَّجا صبابة لمن صبا

وَلَمَعَ البرق إذا الغيث وكف وطاف بالبيت منيب واعتكف

على أجلِّ مُرْسَلٍ وآله وصحبه وتابعي منواله

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢].

عباد الله: إنَّ النَّاظر بعين البصر والبصيرة إلى الخلق يجد عجباً، يجدهم غادِين جادِّين في بيع أنفسهم؛ ففائز رابح، ومَغْبُون خاسر، فرابح قد رجح ميزانه، وخاسر أَوْبَقَهُ عدوانه، رابح دان نفسه وحاسبها، وعمل لما بعد الموت فزكا، وصعد بها وارتقى، وخاض المتاعب وركب الأهوال وانتقى، وإلى العلياء ارتقى، فكان الكيِّس العاقل الفاطن ذا الذكا، خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى.

فآفة المرء الهوى، فمن علا على هواه عَقْلُه فقد نجا، أعتق نفسه وشرَّفها وزكَّاها، وقد أفلح من زكَّاها.

فأَرْبِحْ بها من صَفْقَةٍ لمبايع وأَعْظِمْ بها أعظم بها ثمَّ أعْظِمِ

وخاسر نَسِيَ مصيره فانغمس في المحرَّمات على غير بصيرة، وأقبلَ على الدنيا لاهِثاً في شَرَهِ بهيمة، يجيد السباحة من أجلها في كل بحر، ويلبس لها أكثر من ثوب، ويمثِّل بها أكثر من دور، ويتكلم لها بأكثر من لسان، ويركب لها كل مطيَّة.

باع دينه بعَرَضٍ منها، وهبط والهبوط هيِّن، والهابط لم تكن نفسه يوماً أَبِيَّةٌ، أتبع نفسه هواها، وتمنَّى على الله الأماني حتى داهمته المنيَّة.

فَهَمُّه في اليوم أكلٌ وكِسَا وهَمُّه بالليل خَمْرٌ ونِسَا

خائب عاجز خائر بَائِر، خسر نفسه فأوبَقَهَا وأهلكها، وبثمن بخسٍ باعها، فيا لها من رزيَّة! دسَّاها وقد خاب من دسَّاها.

فكان كفاقئ عينيه عمداً فأصبح لا يضيء له نهار

بل كان كالحمار لا يُذكى فيدفع الجوع ولا يُزكَّى

شاد للأولى فهلا كان للأخرى يشيد

{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ للْعَبِيدِ} [فصلت:٤٦] لا نعجب من خطئه واتباع هواه معشر المؤمنين؛ إذ لا عجب ولا غرابة أن يخطئ الإنسان، وتصدر منه الإساءة والسَّفه والجهل والظلم، فكل ابن آدم خطَّاء، والمعصوم من عصمه الله، لكن العجب منه يوم يدرك خطأه وإساءته وسفهه وجهله وظلمه، ثم يظل متلبساً بذلك مصرّاً عليه، آمناً مكر الله به ووعيده له: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:٩٩] يقول ابن القيم رحمه الله: الذنب بمنزلة شرب السمِّ، والتوبة تِرْيَاقُه ودواؤه، والطَّاعة هي الصحة والعافية، وصحة وعافية مستمرة خير من صحة يتخللها مرض وشرب سمٍّ، وصحة يتخللها مرض وشربُ سمٍّ خير من بلاء دائم.

من حاد حب الكمال تعنُّتاً يتبدل الأدنى ويبقى الأحقرَا

فاغتنم حياتك عمرك فلكل غادٍ روحة ولكل وضَّاءٍ سِرَار.