للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من عوامل بناء النفس: مجالسة الصالحين]

من عوامل بناء النفس: مجالسة من رؤيتهم تذكر بالله عز وجل؛ فمجالستهم تريك ما في نفسك من قصور وضعف وعيوب؛ فتصلحها وتهذبها؛ فهم زينة الرخاء وعدة البلاء، يذكرونك إن نسيت، ويرشدونك إن جهلت، يأخذون بيدك إن ضعفت، مرآة لك ولأعمالك، إن افتقرت أغنوك، وإن دعوا الله لم ينسوك {هم القوم لا يشقى بهم جليسهم}.

من جالسهم وأحبهم أذاقه الله حلاوة الإيمان التي فقدها الكثير، وأحلّوا بدلاً منها حبَّ المصلحة التي تنتهي بنهاية المصلحة، إذا رأيت هؤلاء خشع قلبك، واطمأن وسكن ووصل إلى ما يصل إليه سلفنا -أحياناً- يوم يجد أحدهم حبيبه في الله؛ فيتهلل وجهه بشراً وفرحاً، ويفيض دمعه حينما يرى أحد جلاَّسه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

فإذا ظفرت -أخي- بمجالسة مثل هؤلاء؛ فأحبهم وأخبرهم أنك تحبهم واطلب الدعاء منهم -في حال الفراق- في ظهر الغيب، وأطلق وجهك عند لقائهم، وابدأهم بالسلام، ونادهم بأحب الأسماء والكُنَى لديهم، وافسح لهم في المجلس، وزرهم بين آونة وأخرى؛ فالثمرة اليانعة لمجالسة من يذكرونك بالله يقصر العبد عن إحصائها، ويكفي أنها تجعلك تذوق حلاوة الإيمان، وتدخلك في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:٢٨].

ومنها: طلب الوصية من الصالحين، يوم يُقيِّض الله للمرء رجلا صالحاً يعظه، فيثبته الله وينفعه بتلك الكلمات، فتنبني نفسه، وتُسدَّد خطاه يوم يتعرض لفتنة أو بلاء من ربه ليمحصه به.

هاهو الإمام أحمد يساق إلى المأمون مقيداً بالأغلال، وقد توعده وعيداً شديداً قبل أن يصل إليه حتى قال خادمه: يعز عليَّ يا أبا عبد الله أن المأمون قد سلَّ سيفاً لم يسله قبل ذلك، وأنه أقسم بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن لم تجبه ليقتلنك بذلك السيف، وهنا يأتي الصالحون، أهل البصيرة لينتهزوا الفرصة ليلقوا بالوصايا التي تثبت في المواقف الحرجة.

ففي السير: أن أبا جعفر الأنباري قال: لما حُمل الإمام أحمد إلى المأمون أخبرت، فعبرت الفرات، وجئته، فسلمت عليه، وقلت: يا إمام! أنت اليوم رأس، والناس يقتدون بك؛ فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبنَّ خلق كثير، وإن لم تجب ليمتنعن خلق كثير، ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك فإنك تموت، ولابد من الموت فاتق الله ولا تجبه.

والإمام أحمد في سياق رحلته إلى المأمون يقول: وصلنا إلى رحبة، ورحلنا منها في جوف الليل، قال: فعرض لنا رجل، فقال: أيكم أحمد بن حنبل؟ فقيل: هذا، فقال: يا هذا ما عليك أن تقتل هاهنا وتدخل الجنة، ثم قال: أستودعك الله، ومضى.

وأعرابي يعترضه، ويقول: يا هذا إنك وافد الناس فلا تكن شؤماً عليهم، إنك رأس الناس فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه؛ فيجيبوا، فتحمل أوزارهم يوم القيامة، إن كنت تحب الله فاصبر؛ فوالله ما بينك وبين الجنة إلاّ أن تقتل.

ويقول الإمام أحمد: ما سمعت كلمة مذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في رحبة طوق، قال: يا أحمد! إن يقتلك الحق مت شهيداً، وإن عشت عشت حميداً فقوَّى بها قلبي.

فإن أردت بناء نفسك -أخي الكريم- فاحرص على طلب الوصية من الصالحين، واعقلها إذا تُلِيَت عليك، اطلبها قبل سفرٍ إذا خشيت مما يقع فيه، واطلبها أثناء ابتلاء، أو قبل حدوث محنة متوقعة، واطلبها إذا عُيِّنت في منصب صغر أو كبر، أو ورثت مالاً وصرت ذا غنى، واطلبها في الشدة والرخاء والعسر واليسر لتنبني نفسك، وينبني بها غيرك، والله ولي المؤمنين.