للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أبو الدحداح يشتري نخلة في الجنة]

جاءت المصطفى صلى الله عليه وسلم خصومة -كما روى البخاري عليه رحمة الله- بين يتيم وصحابي على نخلة، والناس على الدنيا تجد النزاع بينهم عظيماً، ولم يخل منه حتى عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكان هناك بستان لهذا الصحابي بجانب بستان آخر لهذا اليتيم وبينهما نخلة، وهذا اليتيم لا زال لم يدرك حق الإدراك، فقال هذا الصحابي: هذه النخلة لي.

وقال هذا اليتيم الصغير: هذه النخلة لي.

تشاجرا فذهب اليتيم فاشتكي هذا الصحابي إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم، فأحضر هذا الصحابي وقال: هذا اليتيم يشكوك -أو كما قال صلى الله عليه وسلم- في نخلة أخذتها له.

قال: والله ما كان ذلك لي يا رسول الله! وما كنت لآخذ نخلته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذاً نخرج ونعاين.

خرج النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعتمد على كلام هذا ولا هذا وإنما خرج ليعاين البستانين ويعاين النخلة، تواضعاً منه صلى الله عليه وسلم وحكماً بالعدل؛ لأنه يأخذ عن العدل سبحانه وتعالى.

وعندما وصل إلى ذاك المكان؛ فإذا بالنخلة في بستان الصحابي واضحة جلية، فهل يعطف على هذا اليتيم فيحكم بغير حكم الله؟ لا.

ما كان ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

فحكم بالنخلة للصحابي فذرفت دموع اليتيم على خديه؛ فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يجبر كسر قلب هذا اليتيم؛ لأنه لم يدرك الحق.

فقال لهذا الصحابي: أتعطيه هذه النخلة ولك بها عذق نخل في الجنة؟

لكن الصحابي كان في وقت غضب إذ كيف يشكوه إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم والحق له! وكان في الجلسة رجل يتمنى مثل هذه الفرصة اسمه أبو الدحداح رضي الله عنه وأرضاه، قال: يا رسول الله! لئن اشتريت هذه النخلة وأعطيتها هذا اليتيم ألي العذق في الجنة؟ قال: لك ذلك.

فيلحق بهذا الصحابي ويقول: أتبيعني هذه النخلة ببستاني كله.

قال: أبيعكها.

لا خير في نخلة شكيت فيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فباعه النخلة بالبستان كله، وذهب إلى أهله ونادى فيهم: يا أم الدحداح! ويا أبناء أبي الدحداح! قد بعناها من الله فاخرجوا منها، فخرج ومع أطفاله بعض الرطب فقام يأخذه ويرميه فيها ويقول: قد بعناها من الله جل وعلا بعذق في الجنة، لا نخرج منها بشيء، خرج هو وأهله وقد باع كل شيء واشترى عذقاً من نخلة عند الله جل وعلا.

فهل قال: انتهينا.

لنا في الجنة عذقاً ويكفي، لا نصلي ولا نصوم ولا نعمل أي شيء.

لا.

فإن الذي بذل هذه سيبذل أعظم منها، بذل المال وبذل الأولاد وبذل كل نعيم في هذه الحياة ثم في الأخير يقدم نفسه لله جل وعلا.

يخرج في معركة أحد؛ والتي ابتلي فيها المؤمنون ابتلاء شديداً، وربي فيها المؤمنون تربية عظيمة، وكسرت فيها رباعية المصطفى صلى الله عليه وسلم وشج وجهه، يوم انتهت المعركة ذهب يفتش صلى الله عليه وسلم وهو في تلك الحالة عن أصحابه يتفقدهم، ويأتي إلى صاحب العذق إلى أبي الدحداح، وإذ به مضرج بدمائه، فيرفعه ويمسح الدم عن وجهه ويقول: {رحمك الله يا أبا الدحداح! كم من عذق مذلل الآن لـ أبي الدحداح في الجنة}.

لا إله إلا الله! ماذا خسر أبو الدحداح؟! خسر تراباً؟! خسر شجيرات؟! خسر نخيلات؟! لكنه فاز بجنة عرضها الأرض والسماوات: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:١٨٥].

هل هذا فقط في عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ والله! إن الأمثلة لكثيرة وإن النماذج لعظيمة، ولكني أنتقل بكم إلى نموذج آخر قصير.