للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نزول الوحي ببراءة أم المؤمنين]

قالت: فجلس صلى الله عليه وسلم، ثم شهد أن لا إله إلا الله، ثم حمد الله الذي بنوره تقوم السماوات والأرض، ثم قال: {يا عائشة! إن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه؛ فإن العبد إذا اعترف ثم تاب تاب الله عليه}.

تلعثمت من البكاء لا تستطيع الكلام، تقول لأبيها: أجب عني رسول الله فيما قال، فيبكي أبو بكر ويقول: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وماذا يقول أبو بكر في اتهام كهذا، ماذا يقول في فرية المغرضين من أعداء الإسلام؟!

قالت: فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله فتبكي أمها، وتقول: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فاستجمعت قواي وجف الدمع من عيني، وقلت: إني والله قد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في نفوسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم إني بريئة لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر لم أعمله لتصدقنني، فوالله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا أبا يوسف حين قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:١٨].

قالت: فاندفع أبي وأمي باكيين، أما رسول الله فلم يتحرك، مهموم به من الهم ما به، قالت: فوالله ما غادر مكانه صلى الله عليه وسلم حتى أتاه الوحي، وكان إذا أتاه الوحي من السماء ثقل جسمه، فاضطجع على فراشه، وأخذ عرقه يتصبب من جبينه الطاهر، فعرفنا أنه الوحي، قالت: فوالله ما فزعت، أما أبي فكادت نفسه أن تخرج خوفاً أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس.

تحدر العرق بعد ما استفاق صلى الله عليه وسلم كالجمان من على وجهه، فجعل يمسح العرق وهو يبتسم ويقول: {يا عائشة! أبشري إن الله قد برأك من فوق سبع سماوات} براءة من الله، ولطف من الله، ورحمة من الله، يوم أن توصد الأبواب فلا يوجد إلا باب الله، يوم أن تسدل الحجب فلا يأتي إلا عطف الله وحنان الله.

فلرب نازلة يضيق بها الفتى ذرعاً وعند الله منها المخرج

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج

تهلل وجهها رضي الله عنها، قال لها أبوها أبو بكر رضي الله عنه: يا عائشة! قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمي عليه واحمديه، قالت: لا والله لا أقوم ولا أحمده ولا أحمدك ولا أحمد أمي، وإنما أحمد الذي أنزل براءتي من فوق سبع سماوات، لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غيرتموه.

يدخل صلى الله عليه وسلم بعدها المسجد منتصراً على أعداء الرسالة الذين ألصقوا به التهمة في عرضه وشرفه، يجمع الناس ويقف على المنبر يتلو آيات الله البينات، تنزل من على المنبر كأنها القذائف، يسمعها المؤمن والمنافق والذكر والأنثى، وتقرؤها الأمة إلى قيام الساعة؛ لأن التهمة كانت فيه صلى الله عليه وسلم.

اسمعوا إلى الآيات التي نزلت قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:١١ - ١٢] إلى أن قال تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:١٤ - ١٥].

وليست التهمة له صلى الله عليه وسلم؛ بل تتجدد يوماً بعد يوم في صور ومخططات رهيبة مفزعة، لكن العاقبة مع ذلك للمتقين والإسلام منتصر في كل مكان: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:١٧].

ألا فليخسأ الذين يريدون هدم هذا الدين من الذين يلصقون التهم بدعاته وعلمائه العاملين، وإن نجحوا فالنجاح مؤقت والعاقبة للمتقين، نسأل الذي بيده مقاليد الأمور أن يفضح من أراد علماء الإسلام من اليهود والمنافقين وأذنابهم على رءوس الأشهاد، اللهم افضحهم على رءوس الأشهاد، اللهم افضحهم على رءوس الأشهاد.

اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك.

اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم أرنا فيهم يوماً أسود تقر به أعين الموحدين الآمرين والناهين.

اللهم احفظ علماء الأمة بحفظك، اللهم احفظ علماء الأمة بحفظك، اللهم احفظ علماء الأمة بحفظك، واكلأهم برعايتك، وسدد رميهم، واجعل كلماتهم فوارق على كل من أراد بهم الخذلان، وافضح أعداءهم على رءوس الأشهاد، اللهم واهدنا إلى الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.