للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مواقف من سيرة السلف الصالح]

الحمد لله قَدَّم من شاء بفضله، وأخر من شاء بعدله، لا يعترض عليه ذو عقل بعقله، ولا يسأله مخلوق عن علة فعله.

هو الكريم الوهاب، هازم الأحزاب، ومنشئ السحاب، ومنزل الكتاب، ومسبب الأسباب، وخالق الناس من تراب.

الواحد الأحد العزيز الماجد، المتفرد بالتوحيد والتمجيد، ليس له مثل ولا نديد، هو المبدئ المعيد، الفعال لما يريد، جل عن اتخاذ الصاحبة والولد، ولم يكن له كفواً أحد.

لم يزل حكيماً قديراً، عليماً خبيراً، سبق الأشياءَ علمُه، ونفذت فيها إرادته، ولا يعزب عنه مثقال ذرة سبحانه وبحمده.

لم يلحقه في خلق شيء مما خلق كلال ولا تعب، وما مسه لغوب ولا نصب، خلق الأشياء بقدرته، ودبرها بمشيئته، وقهرها بجبروته، وذللها بعزته، فذلت له الرقاب، وحارت في ملكوته فطن ذوي الألباب، وقامت بكلمته السماوات السبع والأرض المهاد، وثبتت الجبال الرواسي، وجرت الرياح اللواقح، وسار في جو السماء السحاب، وقامت البحار، وهو الله الواحد القهار، مغشي الليل النهار، خضع لعظمته المتعززون المتكبرون، وخشع له المترفعون، واستكان لربوبيته المتعظمون، ودان طوعاً وكرًها له الخلق أجمعون.

نحمده على حَزن الأمر وسهله، ونحمده كما حمد نفسه، وكما حمده الحامدون من جميع خلقه.

ونستعينه استعانة من فوَّض أمره إليه، وأقر أنه لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه.

ونستغفره استغفار مقرٍّ بذنبه، معترف بخطيئته.

ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.

شهادة عبده، وابن عبده وابن أَمَته ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته؛ إقراراً بوحدانيته، وإخلاصاً لربوبيته، فهو العالم بما تبطنه الضمائر، وما تنطوي عليه السرائر، وما تغيض الأرحام وما تزداد، وكل شئ عنده بمقدار، لا يوارى عنه كلمة، ولا يغيب عنه غائبة.

{وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام:٥٩] ونشهد أن محمداً عبده ونبيه ورسوله إلى خلقه، وأمينه على وحيه، أشرف من وطئ الحصى بنعله، بلغ عن الله رسالاته، ونصح له في برياته، وجاهد في الله حق الجهاد، وقاتل أهل البغي والزيغ والعناد والفساد؛ حتى تمت كلمة الله، وقطع دابر الفساد، صلوات الله عليه وسلامه -من قائد إلى الهدى- وعلى آل بيته الطاهرين، وعلى أصحابه المنتخبين، وعلى أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، ومن سار على نهجهم واقتدى بهديهم من الفقهاء والزهاد والدعاة العاملين المشمرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.

آمين آمين لا أرضى بواحدة حتى أبلغها مليون آمينا

أما بعد:

أحبتي في الله: لقاؤنا الليلة معكم يتجدد بعد زمن في هذه الكلمات القلائل المُعَنْوَنِ لها كما رأيتم وسمعتم: (بصفحات مطوية) أودعتها طرفاً من حياة بعض العلماء الأفذاذ، ونتفاً من حرص طلاب العلم على العلم، ونادراً من ثبات أكثر أهل الملة، ونبذاً من نصح الأمة لدينها، وشذراً من زهد العلية الأجِلَّة، وطيفاً من قوة البرهان والحجة مع السير على المحجة.

هي باقة من مكارم الآباء تهدى إلى الأبناء، وطاقات علمية نادرة، وعبقريات فذة مدهشة، هي لأهل العلم تذكرة، وللعامة والخاصة تبصرة، نرجو أن ينعش بها العليل، ويشحذ بها الكليل، ويُبعث الوسنان، ويُوقظ الهاجع، ويُنشر المطوي، ويُفتح المغلق، وينهض المقعد، ويمشي الكسيح.

أضعها بين أيديكم كالمائدة تختلف عليها أصناف الأطعمة لاختلاف شهوات الآكلين، وأنا لا أدعي -معاذ الله- أني أتيت فيها بجديد، ولا أدعي أني أتيت بخفي أو دقيق، فهي أشهر من أن تذكر، ما أظن أحداً منكم إلا وقد سمعها.

جمعتها من كتب السير والتراجم، مجتهداً -فقط- باختيار اللفظ المناسب للموقف؛ فجاءت مشكلة المباني، مختلفة المعاني، راجياً أن تنبع من بين الجوانح لتصل إلى الجوانح وتظهر على الجوارح، فإذا مر بك -يا أخي- ما لا يعجبك فلا تصعِّر خدك، ولا تعرض بوجهك، ولا تسُلّ لسَانَكَ، ولا تجلب بخيلك وَرَجِلَك، وخذ من المائدة ما يعجبك واتهم فهمك.

فكَمْ مِنْ عائبٍ قوْلا صَحِيحاً وآفَتُهُ منَ الفَهْمِ السَّقِيمِ

ولا يصدنك عن الحكمة قائلها؛ فقد يقول الحكمة غير الحكيم، وتكون الرمية من غير الرامي، وربَّ حامل فقه إلى من هو أفْقَهُ.

اعْمَلْ بعلمِي وغُضِّ الطَّرْفَ عَنْ زَلَلَي يَنفَعْكَ قَوْلِي ولا يَضْرُرْكَ تَقْصِيرِي

لقد خففت وإن كنت أكثرت، واختصرت وإن كنت أطلت، وتوقيت ما يتوقاه من رضي من الغنيمة فيها بالسلامة، ومن بعد الشقة بالإياب، لكني لم أجد بداً من الوقوف على ما أودعته هذه الصفحات؛ إذ لا يسع الصمت؛ ففي الصمت عِيٌ كعي الكَلِم، فأسأل الله بعزته وقدرته أن يمحو ببعض بعضاً، ويغفر بخير شراً، وبجد هزلاً، ثم يعود علينا بفضله، ويتغمدنا بعفوه، ويعيذنا بعد طول الأمل فيه، وحسن الظن به من الخيبة والحرمان.

اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول والعمل، ونعوذ بك من التكلف لما لا نحسن، ونعوذ بك من العُجْب لما نحسن، ونعوذ بك من السلاطة والهذر، ونعوذ بك من العي والحصر.

فالقولُ ذُو خَطَل إذَا مَا لَمْ يَكُنْ ربِّي مُعِينِي

أعذني ربِّ مِنْ حَصَرٍ وَعِيٍّ ومن نفسٍ أُعَالِجُهَا عِلَاجاً

اللهم إنا نستعينك ونتوكل عليك، ونفر من حولنا وقوتنا إلى حولك وقوتك، لا إله إلا أنت، لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلاً.