للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من استطاع منكم أن يؤثر الله في كل مقام فليفعل]

الصفحة الرابعة: من استطاع منكم أن يؤثر الله في كل مقام فليفعل.

في تهذيب الكمال، وفي صور من حياة التابعين أن ابن هبيرة كان والياً على العراقين؛ والمقصود بـ العراقين البصرة والكوفة في عهد الخليفة يزيد بن عبد الملك، وكان يزيد يرسل إليه بالكتاب تلو الكتاب ويأمره بإنفاذ ما في تلك الكتب ولو كان مجافياً للحق أحيانا، فدعا ابن هبيرة عالميْن؛ هما الحسن البصري، وعامر الشعبي يستفتيهما في ذلك، هل له مخرج في دين الله أن ينفذ تلك الكتب؟

فأجاب الشعبي جواباً فيه ملاطفة ومسايرة والحسن ساكت، فالتفت ابن هبيرة إلى الحسن وقال: ما تقول يا أبا سعيد؟ فقال: يـ ابن هبيرة! خَف الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله، واعلم أن الله عز وجل يمنعك من يزيد، وأن يزيد لا يمنعك من الله.

يـ ابن هبيرة! إنه يوشك أن ينزل بك ملك غليظ شديد لا يعصي الله ما أمره، فيزيلك عن سريرك، وينقلك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك حيث لا تجد هناك يزيد، وإنما تجد عملك الذي خالفت فيه رب يزيد.

يـ ابن هبيرة! إنك إن تكن مع الله وفي طاعته يكفك بائقة يزيد، وإن تكن مع يزيد في معصية الله فإن الله يكلك إلى يزيد.

فبكى ابن هبيرة حتى بللت دموعه لحيته، ومال عن الشعبي إلى الحسن وبالغ في إعظامه وإكرامه.

فلما خرجا من عنده توجها إلى المسجد فاجتمع عليهما الناس وجعلوا يسألونهما عن خبرهما مع ابن هبيرة، فالتفت الشعبي إليهم وقال: أيها الناس! من استطاع منكم أن يؤثر الله عز وجل على خلقه في كل مقام فليفعل؛ فوالذي نفسي بيده! ما قال الحسن لـ ابن هبيرة قولاً أجهله، ولكني أردت فيما قلته وجه ابن هبيرة، وأراد الحسن وجه الله فأقصاني الله منه، وأدنى الحسن وحببه إليه.

أيها الأحبة: إن القلب هو محل التأثر من الإنسان، والقلوب بيد الرحمن يقلبها كيف يشاء، ومن راءى بعلمه ونصحه فقد قطع ما بينه وبين الله، وأنى له أن يمنحه الله إقبالاً من الناس أو تأثيراً فيهم! لذا تراه إن تكلم لم يُسْمع، وإن عمل لم يحرك ويظن أنه قد أحسن، ولكن كم من مسيء يرى أنه محسن، وجاهل يرى أنه عالم، وبخيل يرى أنه كريم، وأحمق يرى أنه عاقل، وظالم يرى أنه مظلوم، وآكل للحرام يرى أنه متورع، وفاسق يعتقد أنه عدل، وطالب علم للدنيا يرى أنه لله، والأجل قصير، والأمل طويل، والمرد إلى الله، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، من آثر الله دله الله على الطريق، وإنا لله من بُعْدٍ عن الطريق.

وفي السير -أيضاً- أن الحسن قد خرج من عند ابن هبيرة فإذا هو بالقراء على الباب، فقال: [[ما يجلسكم هنا؟! تريدون الدخول؟! أتجالسونه مجالسة الأبرار؟ تفرقوا فرَّق الله بين أرواحكم وأجسادكم، قد فَرْطَحْتُم نعالكم، وشمرتم ثيابكم، فضحتم القراء فضحكم الله، والله! لو زهدتم لرغبوا فيما عندكم من العلم، ولكنكم رغبتم فيما عندهم فزهدوا فيكم.

أبعد الله من أبعد، أبعد الله من أبعد، أبعد الله من أبعد.

أهينوا الدنيا؛ فوالله لأهنأ ما تكونون إذا أهنتموها]]، ثم كان مما قال: [[السكين تُحدُّ، والكبش يُعْلف، والتنور يُسْجَر، ومن سمع سمّع الله به، وما أحد أعز الدرهم إلا أذله الله.

تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار]].

أيها الأحبة: إننا نفوس لا ألفاظ، والكلمة من قائلها بمعناها في نفسه، لا بمعناها في نفسها، فما يحسن بحامل الشريعة أن ينطق بكلام يرده عليه الشرع، ولو نافق طالب العلم لكان كل منافق أشرف منه، ولطخة في الثوب الأبيض ليست كلطخة في الثوب الأسود.

والدينار إذا كان صحيحاً في أحد وجهيه دون الآخر، أو في بعضه دون بعض فهو زائف كله، فمن ترك واجباً مخافة أحد نزعت منه هيبة الله حتى لو أمر بعض ولده أو مواليه لاستخف به.

يقول الفضيل: إنما يهابك الخلق على قدر هيبتك لله عز وجل.

فاجعلْ رِضَا اللهِ كلَّ القَصدِ تنْجُ فَمَا يُغني رِضَا الخَلْق والخَلاقُ قد سخطا

هل يبسطون لِمَا القهارُ قابضهُ أوْ يَقْبضونَ إذا الرّحمنُ قد بَسَطَا

لا والله.