للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كعب بن مالك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من تبوك]

يقول كعب: فلما بلغني أنه قد توجه قافلاً -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- حضرني همي -حضره بثه وحزنه- قال: فطفقت أتذكر الكذب، وأقول: بِمَاذا أخرج من سخط رسول الله صلى الله عليه وسلم غداً؟ واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي؛ فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً زاح عني الباطل، وعرفت أني لن أخرج منه أبداً بشيء فيه كذب، فأجمعت صدقه.

ويا له من رأي! وقدم صلى الله عليه وسلم، ثم جلس للناس، وجاءه المُخلَّفون يعتذرون إليه ويحلفون له، فقبل منهم صلى الله عليه وسلم علانيتهم، ووكَل سرائرهم إلى الله -وهذا هو منهجنا- وجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسُّم المغضب، ثم قال: تعال، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال: {ما خلَّفك يا كعب؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ فقلت: يا رسول الله! والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، والله لقد أُعْطيتُ جدلاً، ولكني والله لقد علمت لَئِن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكنَّ الله أن يُسخطَك عليَّ، ولئن حدثتك حديث صدق تَجِد عليَّ فيه، إني لأرجو فيه عفو الله.

والله -يا رسول الله- ما كان لي من عذر، والله ما كنت أقوى ولا أيسرَ مني حين تخلفت عنك، فقال صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، قم حتى يقضي الله فيك}.

صِدْقٌ ووضوحٌ وصراحةٌ، لا التواء ولا مراوغة.

علم كعب أن نجاته في الدنيا والآخرة إنما هي بالصدق، وقد هدي ووفق إلى الرشد والصواب، والموفق من وفقه الله.

يقول كعب: فقمت وسار رجال من بني سلمة، فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك -يا كعب - قد أذنبت ذنباً مثل هذا، أوقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله بما اعتذر له المخلفون؟ قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك: يقول: فو الله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع، فأُكذِّب نفسي.

عباد الله: ما أشد خطر صديق السوء! كاد يهلك كعب بسبب بني عمومته الذين يظهرون بمظهر الناصح المشفق وهم يدفعون به إلى وادٍ سحيق من الهلاك، هلك فيه جمع كبير من المنافقين.

إنها مقالة ويا لها من مقالة! كثيراً ما تتكرر في مجالسنا! يتهمون الصادق بأنه طيب القلب غِرٌ لا يحسن المراوغة ولا المخارج، ويصفون الكاذب بالذكي الألمعي العبقري، وكبرت كلمة تخرج من أفواههم! أرأيت هؤلاء عندما وصفوا الأمر لـ كعب بأنها أول كذبة ولا ضير فيها، وسيعوضها استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، وكل ذلك وسائل لتزيين الباطل؛ يبهرجها قرين السوء من حيث شعر أو لم يشعر.

فمن العداوة ما ينالك نفعه ومن الصداقة ما يضر ويؤلم