للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ما يحتاجه المسافر في طريق الحياة]

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبده وابن عبده وابن أَمَتِه، ومَنْ لا غنى به طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته.

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خِيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، جعل الله الذُّل والصَّغار على من خالف أمره، وسدَّ إلى الجنة كل الطرق، فلم يفتحها لأحد إلا من طريقه، صلوات الله وسلامه على خاتم رسله، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره، واستمسك بهديه وسنته.

اللهم إنا نسألك الثبات والهداية، ونعوذ بك من الخذْلان والغِوَاية، اللهم إني أعوذ بك أن أقول زورًا، أو أغشى فجورًا، أو أن أكون بك مغرورًا.

اللهم من كان سببًا في هذا اللقاء فأجزل مثوبته، وارفع درجته، إنك سميع الدعاء: {يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢] سلام لكم.

وسلام عليكم.

سلام لكم أهل العلى من أظنكم خليقين أن تحيوا كراماً وتنصروا

مضى زمن التَّنويم يا قوم وانقضى ففي الحي أيقاظٌ على الحي تَسهر

صَحَوتم وأدركتم وبانت نفوسكم من العيش إلا في ذُرَا العز تسخر

رجال العُلى الميمون إنَّا بحاجةٍ إلى أذنٍ تُصْغِي وقلبٍ يبصَّر

شَباب العُلى الميمون إنَّا بحاجةٍ إلى عالمٍ يدعو وداعٍ يذكر

كُهولَ العلى الميمون إنَّا بحاجةٍ إلى حكمةٍ تُمْلى وعقلٍ يُفكِرُ

أهالي العُلى الميمون إنّي وإنني أُناشدكم بالله أن تتذكروا

عليكم حقوقٌ للعباد أجلُّها تَعَهُدهم بالعلمِ فالرَّوض يقفر

ولا تيئسُوا ما خاب أصحاب ملةٍ إذا ما تواصوا بينهم ثم شمروا

وما ضاعَ حق لم ينم عنه أهله ولا ناله في العالمين مقصر

إذا الله أحيا أمةً لن يردها إلى الموت قهارُ ولا متجبر

قُصَارى مُنَى أمتكم أن ترى لكم يدًا تَجتني علمًا وتَنهى وتَأمرُ

دعوتموني فأجبت ملبيًا فرحًا، وما حالي إلا كذلك القائل يوم قال:

آهٍ لبرقٍ لمعا ماذا بقلبي صنعا

جِسمي معي لكن قلبي عند أَخيار العلى

أُشْهِد الله على حب الصالحين، ولا أحسبكم إلا أولئك الصالحين، حشرنا الله في زُمرَة النَّبيين والصِّديقين والشهداء والصالحين، وهو ولي المؤمنين:

إنَّا على البعاد والتفرق لنلتقي بالذكر إن لم نلتق

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: أنفع الناس لك من مكَّنك من نفسه لتزرع فيها خيرًا.

فأَسْأل الله أن يجعلكم من أنفع الناس للناس، الذين هم أحب الخلق إلى الله، وأسأله أن يجعلني أهلاً لزرع الخير في قلوب الخلق ابتغاء مرضاة الله.

فما بقيت من اللذات إلا مذاكرة الرجال ذوي العقول

وإنْ كانوا إذا عُدُوا قليلاً فقد أَضْحوا أقلَّ من القليل

وإنَّي أرجو أن يُبارك الله في القليل.

أحبتي في الله: قيل لأحد الحكماء: ما لك تُدمن إمساك العصا ولست بكبير ولا مريض؟ فقال:

حملت العصا لا الضَّعف أوجبَ حمْلَها عليَّ ولا أنَّي تحنيت من كبر

ولكنني ألزمت نفسيَ حمْلها لأعلمها أن المقيم على سفر

لا زلنا -إخوتي- على الطريق الذي سبق؛ هُتِف عليه من قبل أن: "اقصد البحر وخلِّ القنوات"، ثم هُمِس عليه من بعد ذلك أن: "تأمل".

واليوم مع "إشارات على ذاك الطريق"، تتراوح بين الإغراء والتحذير، جمعتها من كتب أهل العلم، ثم صغتها ليعلم الجميع أن المقيم على سفر فلا يَرْكن، ويَسْلك الطريق المستقيم فلا يُجتال، ويعلم حاجته للزاد والعدة، فمن أراد الخروج أعد له عُدة، وحَدا حَادِيه كقول الحادي يوم قال:

أوانًا في بيوت البدو رحلي وآونة على قتب البعير

إنها كلمات في إشارات، هي جهد المقل المعترف بالتقصير دوماً وأبداً والحال معها:

لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم يسعد الحال

ومن جهلت نفسه قدره، رأى غيره منه ما لا يرى، أرجو الله أن تُؤْتِيَ أُكُلَها، وأن يُخَلِصها لقائلها ومُستمعها وسامعها، وأن يسوقها لأهلها الذين إن وجدوا خيرًا به عملوا، وبالأجر للقائل دعوا، وإن وجدوا خللاً أصلحوا ونصحوا ودفنوا، كما أسأله أن يصلح بها المتربصين، الذين إن رأوا هفوة صرخوا وصاحوا كشيطان العقبة، وطاروا بها وفرحوا.

وعلى الله وحده اعتمادي، وإليه وِجْهَتي واستنادي، فهو المستعان وعليه التُكْلان، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً.

يقول ابن القيم رحمه الله: لم يزل الناس مُذْ خُلقوا مسافرين، وليس لهم حط لرحالهم إلا في الجنة دار النعيم، أو في النار دار الجحيم.

والعاقل يعلم بطبعه أن السفر مَبْنِيٌّ على المشقة والأخطار، بل هو قطعة من العذاب واللأواء، ومن المحال عادة أن يُطلب في السفر النعيم والراحة، واللذة والهناء، فكلُّ وَطْأَةِ قدم أو أَنَّة من أنات المسافر بحساب، وكل لحظة ووقت من أوقات السفر غير واقفة، والمسافر غير واقف، فإذا ما نزل المسافر أو نام أو استراح فهو على قدم الاستعداد للسير في قطع المَفَاوِزِ والقِفَار، السفر مِضْمار السباق، وقد انعقد المضمار وخفي السابق، والناس في المضمار هذا بين فارس وبين راجل، وبين أصحاب حُمُرٍ معقرة:

سوف ترى إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار؟

وفاز بالسبق من قد جد وانقشعت عن أفقه ظلمات الليل والسحب

إن السلاح جميع الناس تحمله وليس كل ذوات المخلب السبع

هَلْكَى هذا السفر كثير وكثير، والناجون فيه قليل، الناجي فيه واحد من ألف وكفى.

لا تعجب لهالك كيف هلك، ولكن اعجب لناج كيف نجا.

البعض في هذا السفر كإبلٍ سائِبَة لا تكاد تجد فيها راحلة، والبعض الآخر كإبلٍ نَجِيْبَة صابرة نادرة، وأَنْعِم بها من راحلة، النجائب في المقدمة، وحاملات الزاد في المُؤَخِرة.

رفعت لنا في السَّير أعلام السعا دة والهدى يا ذلة الحيران

فتسابق الأبطال وابتدروا لها كتسابق الفرسان يوم رهان

وأخو الهوينى في الديار مخلف مع شكله يا خيبة الكسلان

إلى كم ذا التخلف والتواني وكم هذا التمادي في التمادي

وشغل النفس عن طلب المعالي ببيع الشِّعر في سُوق الكساد

لا بد للمسافر من رِفقةٍ ومن عُدةٍ وعتادٍ، ودليلٍ ومِنْهاجٍ واستعدادٍ بِزَاد، وهَدَفٍ وَوِجْهة، ومحطات استراحة ووسائل مثبِّتَة، وإشارات مرشدة.