للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[العمل أبلغ من القول]

العمل أبلغ من القول: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:٤٣] والناس أبناء ما يُحسنون، وفعل رجل في ألف رجل أبلغ من قول ألف رجل في رجل، ومهما كان العالم وطالب العلم والداعية فصيحًا بليغًا مؤثرًا بارعًا؛ فإن كلامه وعلمه لا يتجاوز الآذان، ما لم يعمل به، حتى إذا ما عمل به دبت فيه الحياة، دبت في كل كلمةٍ ينطق بها، واتجهت كل جملةٍ كأنها قذيفة؛ ترهف آذان الغافلين، وتوقظ ضمائر المتغافلين، وتصبح دروسه وخطبه ومواعظه برنامجًا عمليًا يتقبله الناس راضين به، عاملين مذعنين، فلا يغني العلم شيئاً لوحده؛ لأن العلم لا يعْلِّم وحده، إنما هو بمن يحمله ويعلمه.

وعادة السيف أن يزهى بجوهره وليس يعمل إلا في يدي بطل

والذين يعلمون ثم لا يعملون، أو يعملون بخلاف ما يقولون ويعلمون، بئس ما يصنعون، إنما هم أوعيةٌ للعلم، يسيرون ثم لا ينفعون، بل قد يضرون.

جلسوا على باب الجنة -كما يقول ابن القيم - يدعون الناس إليها بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، كلما قالت أقوالهم: هلموا اسمعوا، قالت أفعالهم: افْرَنْقعوا لا تسمعوا، لو كان حقًا ما يدعون إليه لكانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة هُداة مُرشدون أدلاء، لكنهم في الحقيقة قطاع طرق، أذلاء وما هم بأجلاء، بئس ما يصنعون: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمْ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ} [الجمعة:٥].

ما يغني عن الأعمى نور الشمس لا يُبْصرها، وما يُغني عن العالم كثرة العلم لا يعمل به، إنَّما هو كالسراج يُضيءُ البيت ويحرق نفسه، عليه بُوره، ولغيره نوره، يَحق عليه قول القائل:

فأَسعدت الكثير وأنت تشقى وأضحكت الأنام وأنت تبكي

خير من القول فاعله، وخير من الصواب قائله:

ومن العجائب والعجائب جمة قرب الوصول وما إليه سبيل

كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول

{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} [النساء:٦٦] أي: عملوا بمقتضى ما علموا: {لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لآَتَيْنَاهُم من لدُنا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مسْتَقِيمًا} [النساء:٦٦ - ٦٨]

وكم من قدوات ظاهرًا لم تعمل بمقتضى ما علمت فسقطت، وتكشفت على الطريق، فيما بين غَمْضَة عينٍ وانْتِبَاهتها، لعل ابن عيينة رحمه الله كان يعنيها بخطابه يوم يقول: لا تكونوا كالمُنْخل يخرج الدقيق الطيب، ويُمسك النُخَالة؛ تخرجون الحكمة من أفواهكم ويبقى الغل في صدوركم، إن من يَخُوض النهر لابد أن يصيب ثوبه، وإن اجتهد ألا يصيبه؛ فويْحَكم ثم ويْحَكم ثم ويحكم.

أيها العالم إياك الزلل واحذر الهفوة فالخطب جلل

هفوة العالم مستعظمة إن هفا أصبح في الخلق مثل

إن تكن عندك مستحقرة فهي عند الله والناس جبل

أنت ملح الأرض ما يصلحه إن بدا فيه فساد وخلل