للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[علاج العجب]

علاج العجب: وبعد هذا كله فإني أعرض عليك نقاطاً عدة لعل فيها العلاج لمن أُصِيب بهذا الداء، عافاني الله وإياكم منه.

أولاً: العلم واليقين بأن المِنَة لله عز وجل فيما أُعْطِيت من مواهب وقدرات، والله قادر على أن يَسْلبها ما بين غَمْضَة عين وانْتِبَاهتها: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:٧] {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:٥٣].

ثانياً: دوام حضور مجالس العلم تلميذاً؛ فإن في ذلك تطهيراً للنفس من ذلك الداء وتعريفاً لها بقدرها؛ وذلك هو الدواء.

ثالثاً: خدمة من هم دونك مرتبةً وعلماً وقدراً، ومجالستهم ومؤاكلتهم، وشعارك: مسكين بين ظهراني مساكين، فمن وضع نفسه دون قدره رفعه الناس فوق قدره.

رابعاً: النظر إلى من هم فوقك علماً ومنزلةً وعملاً ورأياً وتفكيراً، إن أعجبت بعقلك، ففكر في كل فكرة سوء تحل بخاطرك، فإنك تعلم نقص عقلك حينئذ، وإن أُعْجِبت برأيك، فتفكر في سقطاتك فاحفظها، ثم انظر إلى من هو أعلى منك رأياً، إن أعجبت بعلمك فاعلم أنه موهبة من الله، وانظر إلى من هو أعلم منك: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:٧٦].

خامساً: تأمل عيوب النفس، ثم جد في محاسبتها أولاً بأول، وأنت أعرف بنفسك، كلٌ منا يصف أواني بيته ومحتوياته، ورَبُّ البيت أدرى بما فيه، وأهل مكة أدرى بِشِعَابها، والصيرفي أعرف بنقد الدينار، فإن خفيت على المرء عيوبه حتى ظن أن لا عيب فيه؛ فليعلم أن مصيبته إلى الأبد وأنه أتم الناس نقصاً، وأعظمهم عيوباً، وأضعفهم تمييزاً، كما يقول ابن حزم: فالعاقل مَنْ ميَّز عيوب نفسه فجَاهَدَهَا، وَسَعى في قمعها، والأحمق من جهل عيوب نفسه، وأحمق منه من يرى عيوبه خصالاً يعجب بها.

من أنت إلا عبد مُكَلف موعود بالعذاب إن قَصَّر، مَرْجو بالثواب إن ائتمر، مُؤَلَّف من أقدار، مشحون بأوضار، سائر إلى جنة إن أطاع وإلا إلى نار، أجارك الله من سامع من النار.

كيف يزهو من رجيعه أبد الدهر ضجيعه

وهو منه وإليه وأخوه ورضيعه

وهو يدعوه إلى الحش بصغر فيطيعه

لو فكر الناس فيما في بطونهم ما استشعر العجب شبان ولا شيب

هل في ابن آدم غير الرأس مكرمة وهو ببضع من الآفات مضروب

أنف يسيل وأذن ريحها سهك والعين مرمصة والثغر ملعوب

يا بن التراب ومأكول التراب غداً أقصر فإنك مأكول ومشروب

وأتم الناس أعرفهم بنقصه كما قيل.

سادساً: اجلس حيث ينتهي بك المجلس، فذلك أدعى لكسر نخوة النفس وعجبها، واتباع للسنة، وأَنْعِم بها من خُلَّة.

إذا لم يكن صَدرُ المجالس سيداً فلا خير في مَنْ صَدَّرته المجالس

سابعاً: إنَّ التعويل على رحمة الله لا على العمل فحسب، يقول صلى الله عليه وسلم كما في البخاري: {لن ينجي أحداً منكم عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته}.

ثامناً: تعويد النفس على حب الفرار من الشرف حتى تعتاد، فمن فرَّ منه وهب له، ومن تواضع لله رفعه، ومن تكبر وضعه.

يقول المدائني: رأيت رجلاً من باهلة يطوف بين الصفا والمروة على بغلة في تيه وعجب، ثم رأيته سافراً راجلاً متعباً مُنْهكاً يحمل متاعه على ظهره، فقلت له: أراجل في هذا الموضع، وأنت من يطوف بالبغلة بين الصفا والمروة؟ قال: نعم، ركبت حيث يمشي الناس، فكان حقاً على الله أن أمشي حيث يركب الناس، ومن تواضع لله رفعه.

تاسعاً: الاستعانة بالله، واللجوء إلى الله أن يطهرك من هذه الآفات، ومن استعان بالله أعانه الله.

فسل العياذ من التكبر والهوى فهما لكل الشر جامعتان

وهما يصدان الفتى عن كل طر ق الخير إذ في قلبه يلجان

والله لو جردت نفسك منهما لأتت إليك وفود كل تهاني

عاشراً: المُجَاهدة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:٦٩].

حادي عشر: إذا أُعْجِبت بمدح إخوانك، فَفَكِّر في ذَم أعدائك إيَّاك، فإن لم يكن لك عدو، فوالله لا خير فيك، فلا منزلة أسقط من منزلة من لا عدو له، فليست إلا منزلة من ليس لله عنده نعمة يُحسد عليها، عافانا الله وإياكم كما يقول ابن حزم رحمه الله.

ثاني عشر: التدبُّر والنظر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة ومن بعدهم، ففيهما لمن تدبر عظة وذكرى، ثَبَتَ عنه صلى الله عليه وسلم -وهو سيد ولد آدم، وخير من دبَّ على الثرى، وهو الأسوة- أنَّه كان يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويَعْتَقِل الشَّاة، ويُجِيب دعوة المملوك، ويركب الحمار، ويقول: {إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد} ويقف بين يديه رجل يرعد كما تَرْعَد السَّعفة فيقول: {هوِّن عليك؛ فإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد} يمر بالصبيان فيسلم عليهم.

قُسِمَ التَّواضع في الأنام جميعهم فذهبت أنت فَقُدتَه بِزِمَامه

صلوات ربي وسلامه عليه، يقول أنس: {إن كانت الأَمَة من إِماء المدينة لتأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيثُ شاءت}.

{كان يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة}.

{كان يَخِيطُ ثوبه، ويَخْصِفُ نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم}.

{إذا صافح الرجل لم ينزع يده من يده حتى يكون هو الذي ينزع يده}.

لا يأنف صلى الله عليه وسلم أن يمشي مع الأرملة والمسكين، فيقضى له الحاجة.

وكان يزور الأنصار، ويسلم على صبيانهم، ويمسح رءوسهم ويعود مرضاهم، يشهد جنائزهم، يدعونه إلى خبز الشعير فما يردهم.

فكلُّ فعلٍ كريم كان فاعله يحيي القُلوب ويحيي ميِّت الهِمَمِ

صلوات الله وسلامه عليه.

يلين لكل ذي ضعفٍ وعجز وكم لان لذي جهل فَلانا

رسول يحمل الأطفال لطفاً ويجعل عاتقيه لهم حصانا

ويختصر القراءة حين يبكي صبيٌّ والموفق من ألانا

يلاطف أهله أَكْرِم بزوجٍ يعفُّ الأهل يغمرهم حنانا

يقاسمهم متاعبهم معيناً.

فكم خصف النِّعال وخاط ثوباً وكم من شاته ملأ الجفانا

زعيم القوم خادمهم فطوبى لمن خدم الرعية أو أعانا

تشبه بالرسول تفز بدنيا وأخرى والشقي من استهانا

فأخلاق الرسول لنا كتاب وجدنا فيه أقصى مبتغانا

وعزتنا بغير الدين ذل وقدوتنا شمائل مصطفانا

صلوات الله وسلامه عليه.

ويأتي من بعده كوكبةٌ من أتباعه الذين رباهم صلى الله عليه وسلم، ليَنْهَجوا نهجه، ويَسْتَنُّوا بسنته، فإذا أنت بخير من دب على الثرى بعد الأنبياء والمرسلين؛ أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه يبعث وينفذ جيش أسامة ضارباً بكل مثبط عرض الحائط، ليخرج في وداعه ماشياً وأسامة راكباً، يقول أسامة: [[يا خليفة رسول الله؛ لتركبن أو لأنزلن.

فيقول: والله لا ركبتُ ولا نزلتَ، وما عليَّ أن أُغَبِّر قدميَّ في سبيل الله ساعة، وإن شئت أن تُعينني بـ ابن الخطاب فافعل]].

ثم يقولها أخرى: [[لو يعلم الناس ما أنا فيه لأهالوا عليَّ التراب]].

عَضْبُ العزيمة في المكارم لم يدع في يومه شرفاً يطالبه غدا

ورُوِى عن الفاروق: أنه لقيه أحد الصحابة وهو يحمل قربة على عاتقه، فقال له: [[يا أمير المؤمنين! أغناك الله وأرضاك، وخَوَّلَك الله وأعطاك، فما يَحْمِلُك على ما أنت فيه؟ قال: إن ما تقوله حق، لكن لما جاءت الوفود سامعة مطيعة، دخلتني نخوة، فأردتُ أن أَكْسِر تلك النخوة في قلبي، ثم مال بالقربة إلى حجرة أرملة من الأنصار، فأفرغها في جرارها]].

فمن يباري أبا حفص وسيرته ومن يُحاول للفاروق تشبيها

ثم ينادي عمر يوماً: الصلاة جامعة، فلما اجتمع الناس وكثروا، وقالوا: الأمر خطب وعظيم، صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم قال: [[أيُّها الناس؛ لقد رأيتني وأنا أرعى غنيمات لخالات لي من بني مخزوم على قبضة من تمر، أو قبضة من زبيب، فأظل يومي وأي يوم، وأستغفر الله لي ولكم ثم نزل من على المنبر.

فقال ابن عوف رضي الله عنه: وَيْحَك يا أمير المؤمنين، ما زدت على أن قمئت نفسك وعبتها أمام الرعية، فقال: ويحك يـ ابن عوف! لقد خلوت بنفسي فحدثتني فقالت: أنت أمير المؤمنين، من ذا أفضل منك، فأردت أن أُذِلَّها وأُعَرِّفَها قدرها]].

كذلك أخلاقه كانت وما عُهِدَت بعد أبي بكر أخلاقٌ تُحاكيها

لعل في أمة الإسلام نابتة تجلو لحاضرها مرآة ماضيها

وأخرج أبو نعيم في الحلية عن الحسن قال: [[رأيت عثمان رضي الله عنه نائماً في المسجد في ملحفةٍ له، ليس حوله أحد، وهو أمير المؤمنين]].

ظهر الحيا وانهل ذاك البارق ونداك فياح ومجدك سابق

وتقسم الناس الحياء مجزءاً فذهبت أنت برأسه وسنامه

رضي الله عن عثمان، وعن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ويُخْرِج ابن عساكر عن زادان أنَّ علياً رضي الله عنه كان يمشي في الأسواق وحده وهو خليفة، يرشد الضَّال، وينشد الضال، ويعين الضعيف، ويمر بالبيَّاع والبقَّال، فيفتح عليه القرآن.

ويرد في صفوة الأخبار: أنه اشترى لحماً بدرهم فحمله في ملحفة، فقال له رجلٌ: أحمل عنك يا أمير المؤمنين.

قال: [[لا.

أبو العيال أحق أن يحمله]] ما تواضع أحد لله إلا رفعه.

فَرع سَما في سماء العز مُتخذاً أصلاً ثوى في قرار المجد مغروسا

وخالد ما خالد؟

أعني ابن الوليد رضي الله عنه وأرضاه ما هُزم في جاهلية ولا إسلام، وهو في أوج انتصاراته، يأتيه خبر عزله من قبل أمير المؤمنين عمر عن قيادة الجيش لمصلحة يراها أمير المؤمنين، فيقول خالد: [[والله لو وَلَّى علىَّ أمير المؤمنين عبداً أسود اللون لسمعت له وأطعت، ما دام يقودني بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم]].

لانت مَهزَّته فعز وإنما يشتد بأس الرمح حين يلين

وقيل لـ عمر بن عبد العزيز رحمه الله: لو أوصيت بدفنك بجوار عمر رضي الله عنه في حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "والله لأَن أَلْقى الله بكل ذنبٍ غير الشرك أحبُ إليَّ من أن أراني أهلاً لتلك المنزلة، اللهم إن عمر ليس أهلاً لأن يَنال رحمتك، لكن رحمتك أهلٌ أن تنال عمر ".

ينسى صنائعه والله يظهرها إن الكريم إذا أخفيته ظهرا

ويأتيك الإمام مالك يَبْرق في ثوب التواضع يَرْفُل عزاً، فيقول: ما رأيت مسلماً إلا وظننت أنه خير مني.

وكذا السحائب قلما تدعو إلى معروفها الرواد إن لم تبرق

واسمع إلى ابن القيم وهو يُحَدِّث عن شيخه ابن تيمية رحمه الله فيقول: كان كثيراً ما يردد: ما لي شيء، ما منى شيء ولا فِيَّ شيء.

أنا المُكَدِّي وابن المُكَدِّي وهكذا كان أبي وجدي

ويكتب بخط يده:

أنا الفقير إلى رب البَرِيَّات أنا المسيكين في مجموع حالاتي

أنا الظَلُوم لنفسي وهي ظالمتي والخير إن يأتنا من عنده ياتي

لا أستطيع لنفسي جلب منفعةٍ ولا عن النفس لي دفع المَضَرَّات

والفقر لي وصفُ ذات لازمٌ أبداً كما الغنى أبداً وصف له ذاتي

وهذه الحال حال الخلق أجمعِهم وكلهم عنده عبداً له آتي

يُثْنى عليه في وجهه فيقول: والله إني لإلى الآن أجدد إسلامي في كلِّ وقت، وما أسلمت بعد إسلاماً جيداً.

رحمه الله! كأن القائل يعنيه يوم قال:

فَصَعَدت في دَرج العُلا حتى إذا جِئْت النُّجوم نزلت فوق الفَرْقَد

على هذا سار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصالحون من بعدهم، لم يتسلل العُجْب إلى نفوسهم، ولم يدخل الغرور إلى قلوبهم، تواضعوا لله فرفعهم الله، وفي الدنيا والآخرة يكرمهم بإذنه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:٩٠].

بتنا نعيش على كرام فعالهم هيهات ليس الحر كالمستعبدِ

أين الجبال من التلال أو الربى ين القوي من الضعيف القعددِ

لا القوم منا لا ولا أنا منهم إن لم أفقهم في العلا والسؤددِ

إن عد أهل التقى كانوا أئِمتهم أو قِيل من خير أهل الأرض قِيل هم

لا يستطيع جواد بعد غايتهم ولا يدانيهم قوم وإن كرموا

هم الغيوث إذا ما أزمة أزِمت والأسد أسد الشرى والبأس محتدم

إلى من عَمِي في شمس نهاره، وعَثُر في ذيل اغتراره، وسقط سقوط الذُبَاب على الشَّراب، وتَهَافت تهافُت الفَراش على الشِّهاب، إن العُجْب أَكْذب، ومعرفة النفس أَصْوب، ولا شيء -والله- أنفع لها من الافتقار إلى بارئها.

بقدر الصُعود يكون الهُبُوط فإيَّاك والَّنفخة العاتية

وكن في مكان إذا ما وقعت تقوم ورجلاك في عافية