للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[العقيدة قوة عظمى]

علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن العقيدة قوة عظمى، لا تعدلها قوة مادية بشرية أرضية أياً كانت هذه القوة.

والأمثلة على ذلك كثيرة وبالمثال يتضح المقال.

ها هي جموع المسلمين وعددها ثلاثة آلاف في مؤتة تقابل مائتي ألف بقلوب ملؤها العقيدة، يقول قائل المسلمين: والله! ما نقاتلهم بعدد ولا عدة وإنما نقاتلهم بهذا الدين، فسل خالداً كم سيف اندق في يمينه؟ يجبك خالد: اندق في يميني تسعة أسياف.

وسل خالداً: ما الذي ثبت في يده وهو يضرب الكافرين؟ يجبك: إنها صحيفة يمانية ثبتت في يده.

انظر إليه يوم يقبل مائتا ألف مقاتل إلى ثلاثة آلاف ليهجموا عليهم هجمة واحدة، يوم يأتي بعض المسلمين ويرى هذه الحشود فيقول لـ خالد: يا خالد! إلى أين الملجأ؟ أإلى سلمى وأجا؟ فتذرف عيناه الدموع وينتخي ويقول: لا إلى سلمى ولا إلى أجا ولكن إلى الله الملتجى؛ فينصره الله الذي التجأ إليه سبحانه وبحمده.

بربك هل هذه قوة جسدية في خالد بن الوليد؟ لا والذي رفع السماء بلا عمد! إنها العقيدة وكفى:

إن العقيدة في قلوب رجالها من ذرة أقوى وألف مهند

وها هو صلاح الدين في عصر آخر غير ذلك العصر -عليه رحمة الله- تأتيه رسالة على لسان المسجد الأقصى وقد كان أسيراً في يد الصليبيين يوم ذاك، تقول الرسالة:

يا أيها الملك الذي لمعالم الصلبان نكس

جاءت إليك ظلامة تسعى من البيت المقدس

كل المساجد طهرت وأنا على شرفي أنجس

فينتخي صلاح الدين ويقودها حملة لا تبقي ولا تذر، ويشحذ الهمم قبل ذلك، فيمنع المزاح في جيشه، ويمنع الضحك في جيشه، ويهيء الأمة لاسترداد المسجد الأقصى الذي هو أسير في يد الصليبيين يوم ذاك، ثم يقودها حملة لا تبقي ولا تذر، فيكسر شوكتهم ويعيد الأقصى بإذن الله إلى حظيرة المسلمين.

ثم ماذا بعد صلاح الدين يا أيها الأحبة؟

عادوا بعد صلاح الدين بفترة يوم تخلى مَنْ تخلى عن مبادئ صلاح الدين، عادوا فاحتلوه وذهبوا إلى قبر صلاح الدين ورفسوه بأرجلهم وقالوا: ها قد عدنا يا صلاح الدين! ها قد عدنا يا صلاح الدين! وهم ينشدون: محمد مات.

خلف بنات.

فما الحال الآن يا أيها الأحبة؟

إن ما يجري هناك لتتفطر له الأكباد، إن المسجد الأقصى -بلسان حاله- ليصيح بالأمة المسلمة: هل من صلاح؟ هل من عمر؟ هل من صلاح؟ هل من عمر؟ فلا أذن تسمع، ولا قلوب تجيب:

إني تذكرت والذكرى مؤرقة مجداً تليداً بأيدينا أضعناه

أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصاً جناحاه

كم صرفتنا يد كنا نصرفها وبات يملكنا شعب ملكناه

استرشد الغرب بالماضي فأرشده ونحن كان لنا ماض نسيناه

إنا مشينا وراء الغرب نقبس من ضيائه فأصابتنا شظاياه

بالله سل خلف بحر الروم عن عرب بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا

وانزل دمشق وسائل صخر مسجدها عمن بناه لعل الصخر ينعاه

هذي معالم خرس كل واحدة منهن قامت خطيباً فاغراً فاه

الله يعلم ما قلبت سيرتهم يوماً وأخطأ دمع العين مجراه

لا در امرئ يطري أوائله فخراً ويطرق إن ساءلته ماه

يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواه

يهتز كسرى على كرسيه فرقا من خوفه وملوك الروم تخشاه

يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه

وها هو ألب أرسلان ذلكم الفتى المسلم الشجاع المؤمن بالله، كان عائداً من إحدى معاركه متجها ببقية جيشه إلى عاصمته خراسان، فسمع به إمبراطور القسطنطينية رومانوس فجهز جيشاً قوامه ستمائة ألف مقاتل، والله! ما جمعوا هذه الجموع إلا بقلوب ملؤها الخور والضعف والهون.

جاء الخبر لـ أرسلان ومعه خمسة عشر ألف مقاتل في سبيل لا إله إلا الله، وانظروا ووازنوا بين الجيشين: ستمائة ألف تقابل خمسة عشر ألف مقاتل، بمعنى أن الواحد يقابل أربعين.

هل هذه قوى جسدية؟

إنها قوى العقيدة وكفى يا أيها الأحبة.

نظر هذا الرجل في جيشه، جيش منهك من القتال، ما بين مصاب وجريح، قد أنهكه السير الطويل، فكر وقدر ونظر في جيشه، أيترك هذا الجيش القادم ليدخل بلاده ويعيث فيها الفساد أم يجازف بهذا الجيش؟ خمسة عشر ألف مقابل ستمائة ألف.

فكر قليلاً ثم هزه الإيمان وخرجت العقيدة لتبرز في مواقفها الحرجة، فدخل خيمته وخلع ملابسه وحنط جسده ثم تكفن وخرج إلى الجيش وخطبهم قائلاً: إن الإسلام اليوم في خطر وإن المسلمين كذلك، وإني لأخشى أن يقضى على لا إله إلا الله من الوجود، ثم صاح: وا إسلاماه! وا إسلاماه! هأنذا قد تحنطت وتكفنت فمن أراد الجنة فليلبس كما لبست ولنقاتل دون لا إله إلا الله حتى نهلك أو ترفع لا إله إلا الله:

فما هو إلا الوحي أوحد مرهف تقيم ظباه أخدعي كل مائل

فهذا دواء الداء من كل عاقل وهذا دواء الداء من كل جاهل

وما هي إلا ساعة، ويتكفن الجيش الإسلامي كله، وتفوح رائحة الحنوط وتهب رياح الجنة وتدوي السماء بصيحات: الله أكبر! يا خيل الله! اثبتي، يا خيل الله! اركبي.

لا إله إلا الله! هل سمعتم بجيش مكفن؟

هل سمعتم بجيش لبس ثياب حشره قبل أن يدخل المعركة؟

هل شممتم رائحة حنوط خمسة عشر ألف مسلم في آن واحد؟

هل تخيلتم صورة جيش كامل يسير إلى معركة يثق أنه من على أرضها يكون بعثه يوم ينفخ في الصور؟

التقى الجمعان واصطدمت الفئتان: فئة تؤمن بالله وتشتاق إلى لقاء الله، وفئة تكفر بالله ولا تحب لقاء الله، ودوَّت صيحات: الله أكبر، واندفع كل مؤمن ولسان حاله: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:٨٤] تطايرت رءوس، وسقطت جماجم، وسالت دماء، وفي خضم المعركة إذ بالمنادي ينادي مبشراً: انهزم الرومان وأسر قائدهم رومانوس.

الله أكبر! لا إله إلا الله! صدق وعده ونصر جنده: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:٢٤٩].

ذهب من جند الله كثير وكثير -نحسبهم شهداء- وبقي الباقون يبكون، فهل يبكون على ما فاتهم من غنائم؟ لا والذي رفع السماء بلا عمد! لكنهم يبكون لأنهم مضطرون إلى خلع أكفانهم وقد باعوا أنفسهم من الله.

أما القائد المسلم فبكى طويلاً وحمد الله حمداً كثيراً وبقي يجاهد حتى لقي الله بعقيدة لا يقف في وجهها أي قوة، ويوم حلت به سكرات الموت كان يقول: آه آه! آمال لم تنل، وحوائج لم تقض، وأنفس تموت بحسراتها.

كان يتمنى أن يموت تحت ظلال السيوف، ولكن شاء الله له أن يموت على الفراش:

إن العقيدة في قلوب رجالها من ذرة أقوى وألف مهند

فاعرف يا بن أمي في العقيدة يا أخا الإسلام في الأرض المديدة

ما حياة المرء من غير عقيدة وجهاد وصراعات عنيدة

فهي طوبى واختبارات مجيدة

فانطلق وامض بإيمان وثيق

وإذا ما مسك الضر صديقي فلأنَّا قد مشينا في الطريق