للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[صور من مبادرة أبي بكر في الطاعات]

خرج أبو بكر من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن عمره في الإسلام بضعة أيام، وعاد وهو يقود الكتيبة الأولى من كتائب هذه الأمة، فعاد وقد أدخل في دين الله ستة من العشرة المبشرين بالجنة، يأتي يوم القيامة، وهم في صحيفة حسناته، وبعضنا يعيش عشرين عاماً وثلاثين عاماً وستين عاماً ومائة عام، وما هدى الله على يديْه رجلاً واحداً! إلى الله نشكو ضعفنا وتقصيرنا.

ليس هذا فحسب؛ بل يمر يوماً من الأيام على بلال رضى الله عنه وأرضاه وهو يُعذب في رمضاء مكة، وبه من الجَهد ما به، وهو يقول: أَحَدٌ أحدٌ.

فيقول: ينجيك الله الواحد الأحد.

ويرى أنها فرصة لا تتعوَّض لإنقاذ هؤلاء الضعفاء؛ لئلا يُفتنوا في دينهم فيصفي تجاراته، ويصفي أمواله، ويأتي إلى أمية بن خلف، ويقول: أتبيعني بلالاً؟ قال: أبيعكه فلا خير فيه، فيعطيه خمس أواقٍ ذهباً، فيأخذ هذه الخمس، ويقول: والله لو أبيت إلا أوقية واحدة لبعتك بلالاً.

قال: ووالله لو أبيت -يا أمية - إلا مائة أوقية لأخذته منك؛ لأن لـ أبي بكر موازين ومقاييس ليست لهذا ولا لغيره من البشر، فرضي الله عنه وأرضاه.

يقول أبوه: إن كنت ولابد منفقاً أموالك فأنفقها على رجالٍ أشداء ينفعونك في وقت الشدائد، فيقول: أبتاه! إنما أريد ما أريد.

ماذا يريد أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه؟

إنه يريد ما عند الله ويريد وجه الله والدار الآخرة، يقول أناس: ما أعتق بلالاً إلا ليدٍ كانت له عند بلال؛ يعني: لمعروف أسداه بلال إليه، فأراد أن يكافئَه بذلك، فيتولى الله سبحانه وتعالى الرد من فوق سبع سماوات: {وَمَا لأحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى) [الليل:١٩ - ٢١] رضي الله عنه وأرضاه، لقد كان سباقاً إلى كل فرصة يغتنمها.

وهاهو خيثمة بن الحارث كان له ابن يسمى سعد بن خيثمة بن الحارث، ولما أراد المسلمون النفور إلى بدر، وأرادوا الجهاد في سبيل الله؛ فما كان من هذا الرجل إلا أن قال لابنه: يا بني! تعلم أنه ليس مع النساء من يحميهن، وأريد أن تبقى معهن.

ورأى هذا الشاب أن هذه فرصة لا تتعوض للجهاد في سبيل الله، قال: والله يا أبتاه! لا أجلس مع هؤلاء النساء.

للنساء رب يحميهن، والله! ما في الدنيا شيء تطمع به نفسي دونك، والله! لو كان غير الجنة -يا أبتاه- لآثرتك به، ولكنها الجنة، والله لا أوثر بها أحداً.

ثم ذهب الشاب، وترك الشيخ الكبير مع هؤلاء النساء، ذهب يطلب ما عند الله، فاستشهد في سبيل الله -بإذن الله نحسبه شهيداً، ولا نزكي على الله أحداً- يقول أبوه بعد ذلك: والله! لقد كان سعد أعقل مني، أواه أواه! لقد فاز بها دوني، والله! لقد رأيته البارحة في المنام: يسرح في أنهار الجنة وثمارها، ويقول: أبتاه! الْحقْ بنا فإنَّا قد وجدنا ما وعد ربنا حقَّا.