للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مواقف الصديق بعد وفاة المصطفى صلى الله عليه وسلم]

صورة أخرى: في يوم الإثنين من ربيع الأول من العام الحادي عشر للهجرة وفي ضحى ذلك اليوم، فاضت أطهر روح في الدنيا من أشرف جسد، في ضحى ذلك اليوم خرج أكرم إنسان في هذا الوجود من الدنيا كما جاء إليها، لم يترك مالاً ولا متاعاً، وإنما ترك هداية وإيماناً وشريعة خالدة، ما تعاقب الليل والنهار، وترك أمة هي خير الأمم ما تمسكت بنهجه وطريقته، وشاع الخبر في المدينة كأفجع ما يكون الخبر، وأظلمت سماء المدينة، وضجت بالبكاء، وأغلقت القلوب بحزنها، وذرفت العيون بدمعها، وليس لعين لم يفض ماؤها عذر، ضاقت على المسلمين أنفسهم، وتبدلت الأرض فما هي بالأرض التي يعرفون، يقول أنس: [[ما رأيت يوماً كان أحسن من يوم دخل فيه علينا المصطفى صلى الله عليه وسلم المدينة، لقد أضاء منها كل شيء، وما رأيت يوماً أظلم من يوم مات فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم]].

أما فاطمة رضي الله عنها، فكانت تقول: [[أبتاه أجاب رباً دعاه، يا أبتاه إلى جنة الفردوس مأواه، ثم تقول بعد دفنه: يا أنس! أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟!]] فلا والله ما تسمع بعدها إلا النشيج والنحيب، ولسان حال أنس ما طابت والله ولن تطيب، ولكنه امتثال لأمر الحبيب، والله ما دفن حتى أنكرنا أنفسنا.

أما الفاروق فأذهله الخبر عن صوابه، فصار يتوعد وينذر ويشهر السيف ويقول: [[ما مات لكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى وليرجعن، وليقطعن أيدي وأرجل رجال زعموا أنه مات]].

ويأتي أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، فيدخل المسجد، فلم يكلم أحداً حتى دخل على عائشة، ميمماً وجهه نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مسجىً ببرد، فيكشف عن وجهه الشريف، ثم يكب عليه يقبله ويبكي ويقول: [[بأبي أنت وأمي ما أطيبك حياً وما أطيبك ميتاً]].

ثم خرج وعمر يكلم الناس، فقال: [[اجلس يا عمر! فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس على أبي بكر، فقال أما بعد: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:١٤٤]]] يقول ابن عباس: [[والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس فلا أسمع بشراً إلا يتلوها]].

أما عمر فيقول كما في صحيح البخاري: [[والله ما أن سمعت أبا بكر يتلوها حتى هويت إلى الأرض ما تقلني قدماي، وعلمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات]] ذلك موقف أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه مع نبيه وحبيبه، وذلك موقف الصحابة جميعهم، والله لولا الإيمان الذي رجح بإيمان الأمة ما كان لـ أبي بكر أن يقفه، معذورون صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إن الخطب جسيم والمصيبة عظيمة، قد كان صلى الله عليه وسلم كل شيء لهم في حياتهم، كان حاكمهم وحبيبهم وأباهم وأخاهم وقائدهم ومربيهم ومنقذهم وهاديهم، فقدوا ذلك كله في ساعة من نهار.

فليهنأ الصديق إذ اختص بذلك الموقف، ومعه لم يكن يضعف وهو اللين الرقيق البكَّاء الحنون، إنه الإيمان الذي وقر في قلبه فصدقه حياً وميتاً، قال في حياته: [[إن كان قال فقد صدق]] وقال بعد موته بلسان حاله: إن كان مات فقد بلغ وصدق، ولا ننسى موقف الصحابة ووقوفهم عند كتاب الله، يوم سمعوا الآية من فم أبي بكر رضي الله عنه، صدقوا وآمنوا وثبتوا وأيقنوا، كيف لا وهم خير القرون، بل هم تربية محمد صلى الله عليه وسلم.