للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من وسائل كشف الكربة: تذكر موت النبي صلى الله عليه وسلم]

ومن وسائل كشف الكربة: تذكُّر المصيبة العظمى بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل مصيبة دون مصيبتنا بموته صلى الله عليه وسلم تهون؛ فبموته صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي من السماء إلى يوم القيامة، وبموته انقطعت النبوات، وبموته ظهر الفساد بارتداد العرب عن الدين؛ فهو أول انقطاع عُرَى الدين أو نقصانه، وفيه غاية التسلية عن كل مصيبة تصيب العبد أو تحلُّ بأمة الإسلام جمعاء.

وهاهو صلى الله عليه وسلم يطلب منا أن نذكر بمصائبنا موته وفراقه، وبذلك تهون علينا المصائب والخطوب؛ فيقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي صححه الألباني في السلسلة: {إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي؛ فإنها أعظم المصائب}.

إي والله! ما من عزيز أو حبيب أو قريب أو صديق فقدناه إلا وذاق القلب من لوعة فراقه وحرقة وداعه ما الله به عليم؛ فهل شعرنا بشيء من هذا، ونحن نستشعر فراق وموت النبي صلى الله عليه وسلم؟

ماذا لو فقد الرجل أسرته كلها، وقد احترق فؤاده، وأٌدمي قلبه، وأنبتت دموعه الأسى، ثم تزوج بعد فترة، ثم رزق بأبناء، وعقب سنوات مات أحد أبنائه؛ كيف يكون حزنه وألمه إذا قورن بالمصاب الأول؟ أليس الخطب أهون؟ أليست المصيبة أقل؟ بلى.

فهكذا ينبغي أن نعزي أنفسنا كلما أصابتنا المصائب بذكر موت النبي صلى الله عليه وسلم فهو أعظم المصائب.

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ما من مسلم إلا وأصيب بموته وفراقه، ويتمنى أن يفتدي رؤيته بالدنيا جميعها، يخاطبنا، فيقول كما في صحيح سنن ابن ماجة: {يا أيها الناس! أيُّما أحد من الناس -أو من المؤمنين- أصيب بمصيبة فليتعزَّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري؛ فإن أحداً من أمتي لن يُصاب بمصيبة بعدي أشدَّ عليه من مصيبتي}.

ولو تأملنا كلمة: فليتعزَّ؛ لوجدنا فيها العلاج والدواء، إنها حروف يُستطبُّ بها الفؤاد، وتُربُّ بها الأكباد.

ماذا لو فقد الإنسان أبويْه الحبيبيْن في حادث سيارة؟! ألا يظلُّ أثر المصيبة في قلبه مدى الدهر؟!

إن المصيبة ينبغي أن تعظم إذا سمعنا قوله صلى الله عليه وسلم -كما روي البخاري ومسلم -: {لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين}.

وكأن المعنى بعد هذا النص سيكون: لا يؤمن أحدكم حتى يكون موتي أعظم مصيبة من موت ولده ووالده والناس أجمعين.

فأين هذا الإحساس؟! وأين بربكم هذا الشعور؟!

إن فقْدَ النبي صلى الله عليه وسلم من مصائب الدين، وإن أي إنسان فقدتَه ليهون أمام فقدان النبي صلى الله عليه وسلم.

يا نفس بعد المصطفى أفتطمعي في الخلد كلا ما إليه سبيل

هل فقدت أمك يوماً ما، وتذكرت عند موتها، وأنت تتألم لفقدها أنها -بإذن ربها- أخرجتك من ظلمات البطن إلى نور الدنيا، ورعتك وربَّتك؟ فهل تنسى في خِضَمِّ ذلك الشعور أن الله أخرجك بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم من ظلمات الضلالة إلى نور الهدى والتوحيد، وهذا -بإذن الله- إنقاذ لك من الخلود في النار؟ فهل بلبن أمك وحنانها وعطفها وعنايتها ورعايتها تُنقَذ من الخلود في النار؟ لا والله؛ فلو كان لكل واحد منا ألف أم بحنان أمِّه وعطفها ومُتْنَ في يوم واحد ما ينبغي أن يُحزن عليهن أكثر من الحزن على موت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فإذا فقدت ابنك، فإذا فقدت حبيبك، فإذا فقدت صديقك، فتألمت وبكيت، ثم زاد ألمُك، وزاد بكاؤك، وزادت لوْعتُك بتذكر عونه ومساعدته وعطفه وبرِّه وصلته؛ فاعلم -والله الذي لا إله إلا هو- أن كل ذلك لن يبلغ ما قدمه لك صلى الله عليه وسلم من هدى ونور يدخلك -بعون الله- جنة عرضها السماوات والأرض لتخلد فيها وتُنعَّم.

نُمتع بعون الأبناء وعطفهم سنوات سرعان ما تمضي، لكن التمتع في الجنة لا نهاية له ولا آخر؛ أفلا يستحق رسول الله صلى الله عليه وسلم منا أن نحزن على موته أكثر ممن سواه، ونتعزَّى به عن فراق من سواه، ونذكره فنتمسك بسنته، ونمضي على شرعته لننعم بعدها في صحبة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؟! ولعل من فقدته في ركبهم فعندها يجمع الله الشتيتيْن.

أيها المصاب: تذكر هذا جيداً لتحس بمصيبة فقده صلى الله عليه وسلم؛ فتهون مصيبتك، ثم تساءل: ماذا لولا ما حباك الله به من هديِه وسنته؟ ماذا لو دخلت النار -أجارك الله-؟ ماذا لو حُرمت الجنة -أعاذك الله-؟ ماذا لو عُذِّبت في القبر -حماك الله-؟ من الذي ينفعك؟ وما الذي ينقذك؟! الأحباب؟! الأصحاب؟! الأبناء؟! الأحفاد؟! لا والله، إلا الإخلاص في اتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فاصبر لكل مصيبة وتجَّلدِ واعلم بأن المرء غير مخلدِ

واصبر كما صبر الكرام فإنها نُوَبٌ تنوب اليوم تُكشَف في غد

أوَما ترى أن المصائب جمة وترى المنية للعباد بمرصدِ؟

من لم يُصب ممن ترى بمصيبة هذا سبيل لست عنه بأوحدِ

فإذا ذكرت مصيبة ومصابها فاذكر مصابك بالنبي محمد

صلى الله عليه وسلم.