للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[توحيد الربوبية]

توحيد الربوبية: هو توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأفعاله، أي أن يعتقد الإنسان أنه لا معين إلا الله، ولا مغيث إلا الله، ولا ناصر إلا الله، ولا معز إلا الله، ولا مذل إلا الله، ولا خالق إلا الله.

وهذا الاعتقاد لا يأتي بالسهل كما يظن كثير من الناس، ولنا عبرة في قصة بني إسرائيل عندما نصرهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لم يكن عندهم الأسباب المادية للنصر، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نصرهم على فرعون وجنوده، وشق لهم البحر، وخاض بنو إسرائيل مع موسى عليه السلام البحر بأنفسهم، ما سمعوا هذا الكلام ولا قرأوه، بل مارسوه بأنفسهم، وعندما جاءوا إلى البحر، ورأوا فرعون أمامهم والبحر خلفهم قالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:٦١].

فلم يكن قد تحكم في قلبهم توحيد الربوبية وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الناصر، صحيح أن الأسباب طريق للنصر، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ليس في حاجة إلى الأسباب لينتصر، فقالوا: إنا لمدركون، ولكن موسى عليه السلام كان في قلبه كمال التوحيد، قال: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:٦٢]، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أوحى إليه، فضرب البحر بعصاه فانشق له البحر، فكانت اثنا عشر طريقاً لبني إسرائيل.

وحتى نرى أن هذا التوحيد لا يأتي بالسهولة كما يظن كثير من الناس، فإنه لما خرج بنو إسرائيل من الناحية الأخرى أتى أمر الله لبني إسرائيل أنفسهم، كما قال الله تعالى: {ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} [المائدة:٢١]، وقال عنهم: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} [المائدة:٢٢].

سبحان الله! فيها قوم جبارون، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد نصرهم عندما لم يكن عندهم أسباب النصر على فرعون وجنوده، فرغم ما لمسوه بأنفسهم من قدرة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على النصر، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو المتصرف، إلا أن هذا التوحيد -توحيد الربوبية- ليس بالأمر السهل، كما قال تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة:٢٢]، وقالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:٢٤] فعندها أتاه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بني إسرائيل أربعين سنة، فجلسوا في التيه أربعين سنة.

وهذا ليس عقاباً فقط من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بل كان الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ينمي في قلب بني إسرائيل توحيد الربوبية، حتى يعلموا أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يحتاج إلى الأسباب لنصرة بني إسرائيل، ففي الصحراء لا يوجد أكل ولا شرب، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنزل عليهم المن والسلوى، وفجَّر لهم الينابيع ليشربوا منها، حتى قيل: إنه في كل يوم كان الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يذهب هذا الماء، ويأتي في اليوم الآخر فيضرب موسى عليه السلام الحجر حتى تنشق الينابيع مرة أخرى وهكذا أربعين سنة، حتى ينمو في قلب بني إسرائيل حقاً أنه لا ناصر إلا الله، ولا محيي إلا الله، ولا مميت إلا الله.

وبعد الأربعين سنة يأتي أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو نفس الأمر الأول: ادخلوا الأرض المقدسة، وفي هذه المرة تأدب بنو إسرائيل ودخلوا الأرض المقدسة ونصرهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بتوحيد الربوبية.