للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بكر المزني وعظمة التواضع]

إن سير الصحابة والسلف رضوان الله تعالى عليهم مليئة بهذا, وأعجبتني هذه الفقرة لـ بكر بن عبد الله المزني رضي الله عنه وهو من مشاهير العلماء المحدثين - يقول: 'إذا رأيتَ من هو أكبر منك, فقل: هذا سبقني بالإيمان والعمل الصالح؛ فهو خير مني، وإذا رأيت من هو أصغر منك, فقل: سبقته إلى الذنوب والمعاصي؛ فهو خير مني'.

هذا ينشأ في طاعة الله وفي تقوى الله, وأنا قد غلبتني الذنوب والمعاصي والغفلة والتقصير, فلا يبلغ مثل ما أبلغ أنا من العمر الآن إلا قد نال الدرجات العلى, وقد جمع من الكنوز ومن الغنائم ومن الأجر ما ياليتني أنا قد جمعته وهكذا دائماً والناس إما أكبر منك أو أصغر منك, فتوقع هذا وتوقع هذا؛ حتى يُؤدب الإنسان نفسه ويعلمها أن تحقر ما تعمل وإن كان من الطاعات.

قال: 'وإذا رأيت إخوانك يكرمونك ويعظمونك فقل: هذا فضل أخذوا به' ولعل مقصوده -رحمه الله- أن هذا فضل منهم أو هذا فضل من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَنَّ عَليَّ بِه وأخذوا به ولا استحقه.

أي: إذا رأيت إخوانك يحبونك ويعظمونك ويقدرونك, فلا يغرنك الشيطان, فتقول: الآن عرفوا قدري, وعرفوا منزلتي وعلمي وعبادتي واجتهادي! لا والله, فهذا من الغرور!! نسأل الله العفو والعافية.

لكن قل: هذا فضل أخذوا به, قُل: غرهم مني أنهم رأوني أقول: كذا وكذا وما علموا ما أغلق عليه بابي, كما كان عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- يقول: [[لو أنكم تدرون ما أغلق عليه بابي ما فعلتم كذا]].

والله إننا نعلم أنه رضي الله تعالى عنه لا يغلق بابه إلا على خير وعلى تقوى وعلى قراءة قرآن وعلى عبادة, لكن قال ذلك زاجراً لهم لما تجمعوا ليسيروا خلفه, وقال لهم: 'إنها ذلة للتابع فتنة للمتبوع'.

وأيضاً من مأثور كلامه رحمه الله يقول: 'لو أن للذنوب رائحة ما جالسني منكم أحد'.

سبحان الله! هؤلاء الناس هم أطهر الخلق بعد الأنبياء وأفضلهم بعد الرسل, يقول: 'لو أن للذنوب رائحة ما جالسني منكم أحد' رائحتها تنتشر ومن هذا المعنى أخذ الشاعر أبو العتاهية فقال:

أحسنَ الله بنا أنَّ الخطايا لا تفوح

فإذا المستور منها بين ثوبيه فضوح

نح على نفسك يا مسكين إن كنت تنوح

لتموتن ولو عُمِّـ ـرت ما عُمِّر نوح

هكذا كانوا يشعرون! فليتأمل كل منا هذا المعنى, لو أن للذنوب رائحة! سبحان الكريم! سبحان الحليم! الذي بلغ من عفوه، ورحمته، ومن سعة رحمته، وفضله، وكرمه، وأنه الغفور الودود الحليم -أنه يقول- في حق الذين أحرقوا أولياءه بالنار الذين خدوا الأخاديد, وجاءوا بهؤلاء المؤمنين, وألقوهم فيها وهم أحياء- في سورة البروج: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج:١٠] فيفتح لهم باب التوبة! يقبل التوبة ممن يفتن المؤمنين بسبب إيمانهم, ويلقيهم في النار وهم أحياء! فهذه توبته للمجرمين فكيف مع المحبين؟! وكيف مع الصادقين؟! وكيف مع المخلصين؟! فمن رحمته أن الخطايا لا تفوح, فكيف لو كان للذنوب رائحة؟! لكان بعض الناس يبتعد عن خلق الله آلاف الأميال, ورائحته تبلغهم أينما ذهبوا, لكن رحمة الله واسعة, ولذلك فإن من شر الناس منزلة عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى المجاهرون, الذين يعمل أحدهم الخطايا والقبائح بالليل ويستر الله تبارك وتعالى عليه, ثم يأتي ويحدث الناس بها, ويقول: (عملت، وعملت) هؤلاء الذين يظهرون الروائح, والله تبارك وتعالى يخفيها ويسترها ويفتح باب التوبة لمن أعلن بها.

يقول بكر بن عبد الله المزني: 'وإن رأيت منهم جفاءً وانقباضاً فقل: هذا بذنب أحدثته" اتَّهمْ نَفْسَكَ, ولا تقل: ليس فيهم خير, بل قل: (هذا ذنب أحدثته) أطلعهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليه, وهم يشعرون أو لا يشعرون, فكانت هذه الجفوة, وكان هذا الإعراض عني, فالمتهم في كل الأحوال مع الصغير ومع الكبير, عند الإعراض وعند التكريم هو هذه النفس.