للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[منشأ القوانين الوضعية]

ظهرت نظرية أخرى وهي نظرية العقد الاجتماعي، ونظرية العقد الاجتماعي كما فسرها جان جاك روسو تقول: ليس لأحد حق إلهي على أن يحكم أحداً أو يسيطر عليه، ولكن الأفراد متعاقدون مع الحكومة أو مع السلطة أياً كانت السلطة، فالسلطة متعاقدة مع الأفراد، والأفراد متعاقدون معها، فهو عقد بين الطرفين، وهو الذي يسمونه العقد الاجتماعي، والسلطة بموجب هذا العقد تتنازل عن أشياء وتلتزم بأشياء، والرعية بموجب هذا العقد الاجتماعي تتنازل عن بعض حقوقها للسلطة لتتصرف فيه وتأمر وتنهى، وفي نفس الوقت تطالب بحقوقها بمقتضى العقد، فهي قضية حقوق وواجبات أو التزامات على السلطة من جهة وعلى الشعب من جهة أخرى.

والغربيون اعتبروا هذا فتحاً عظيماً، وإن كان ظهر من الغربيين أنفسهم من يفسر العقد الاجتماعي لمصلحة الاستبداد، وذلك بحجة أن العوام لا حكم لهم، ولا يعرفون الخير من الشر، فيجعل الحاكم مخولاً بأن يفعل كل شيء، ففسروه من خلال العقد، ولكن جعلوه لمصلحة الأمر الواقع، وهكذا كان الخلاف الشديد بين المفكرين والفلاسفة في أوروبا.

ولما قامت الثورة الفرنسية قبل أكثر من مئتي سنة من الآن، كانت مستندة على نظرية العقد الاجتماعي، وليس على نظرية الحق الإلهي، وأعطي ولأول مرة في تاريخ الإنسانية حق السيادة والتشريع والتحريم للشعب، والشعب يختار سلطته ويعقد معها هذا العقد، ثم هي تشرع ما تشاء وتحل ما تشاء وتحرم ما تشاء.

والصورة الوحيدة التي وجدت قبل هذا الحكم -الذي هو: إعطاء هذا الحق للبشر بشكل صريح منقطع عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعن الأديان هي- ما حدث في نظريات أرسطو وأفلاطون وأمثالهما، حيث تخيلوا المدينة الفاضلة.

فـ أفلاطون في كتابه الجمهورية جعلها نظرية مقررة، ولذلك يقول بأن الفلاسفة هم الذين يحكمون، ولهم حق التحليل والتشريع والتحريم؛ لأن العوام لا يفقهون شيئاً فلا حكم لهم، وكل هذه النظريات مبنية على أساس الكفر بالوحي، وأن الله تبارك وتعالى خلق الناس وتركهم هملاً، ولم ينزل عليهم كتاباً، ولم يرسل إليهم رسلاً، فذلك لا يردون ما تنازعوا وما اختلفوا فيه إلى ما جاء به هؤلاء الرسل من الوحي، فهؤلاء الفلاسفة يكفرون بالوحي نهائياً، فإذا كفروا بالوحي لم يبق إلا البشر، فإما أن يقولوا: إن الحكم للجميع، وهذا ما كان يحدث في بعض المدن اليونانية، وهذا ما يسمونه السيادة الشعبية المباشرة، أو الحكم الشعبي المباشر، فالقرية أو المدينة التي سكانها ألفاً -مثلاً- من البالغون والعقلاء والذكور، فهؤلاء الألف يجتمعون في كل مرة، ويصدرون قانوناً، ويحكمون أنفسهم بأنفسهم.

وهذا الحكم المباشر اعترض عليه الفلاسفة، فقالوا: الناس همج رعاع إلا الفلاسفة، فاقترحوا حكومة الفلاسفة النخبة، فهم الذين يحكمون ويقررون، وبقية الناس يخضعون، وهذه الصورة بقيت مطموسة على مر القرون حتى جاءت الثورة الفرنسية، فقالت: الحق والسيادة للشعب، وظهر في مقابلها أنصار الملكية التي كانت قائمة والتي ثارت عليها الثورة الفرنسية، وكانوا يرون أن السيادة يجب أن تظل محفوظة للامبراطور أو للملك.

وفي بريطانيا ظلت الفكرة واضحة، وهي: أن هذه السيادة وهذا الحق يعطى للملك، وهو الذي يعين مجلس اللوردات أو مجلس الأعيان، وهؤلاء مع المجلس الآخر الذي ينتخبه الشعب هم الذين يشرعون ويحللون ويحرمون، فكان الصراع هناك صراع بين هاتين النظريتين.