للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[منهج أهل السنة وشمولية الدين]

السؤال

بعض الناس يظن أن أهل السنة والجماعة ينبغي أن يقتصر كلامهم على العقائد والأحكام والوعظ ونحو ذلك، وأنهم لا دخل لهم في أمر الواقع وبخاصة الكلام في السياسة وما يهم واقع المسلمين من جميع الجوانب السياسية، والتي تجعلهم ضعفاء في أوساط هذا العالم المتلاطم الأمواج، ويقصر مفهوم أهل السنة والجماعة على ما أشرنا إليه سابقاً وينحيهم عن الكلام في هذه المواضيع، فما رأيكم في ذلك؟

الجواب

هذا لا شك أنه خطأ، وربما يكون انحسار عقيدة الإسلام، ومفهوم الدين، ومفهوم أهل السنة والجماعة، وتخلف المسلمين في الواقع هو الذي جعلهم يبررون هذا الواقع بمثل هذه الدعاوى، وإلا فإذا نظرنا نظرة حقيقية علمية منصفة، وفي نظري لو نظرها أي إنسان غير مسلم فضلاً عن المسلم، فإنه يجد أن عقل المسلم هو العقل الوحيد المفكر في هذا الكون تفكيراً شمولياً عالمياً.

أي عقل في الدنيا أو مذهب أو مبدأ يمكن أن يُفكر في هذا الوجود من أوله إلى منتهاه، ويمتلك أدوات التفكير الصحيحة، لا يوجد غير عقل المسلم.

فنحن -والحمد لله- نؤمن ونعلم -بالتفصيل-بداية هذا الكون، وكيف نشأ، وما الذي حصل، كما في حديث وفد اليمن المروي من حديث عمران بن حصين -رضي الله عنه- الذي أفرده شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية بشرح مستقل {جئنا نسألك عن أول هذا الأمر كيف كان}.

نحن نعلم بالتفصيل ما حار وما تحار فيه عقول أكبر العلماء -علماء الطبيعة-ولن يصلوا إلى شيء من ذلك من نشأة الكون ونشأة الإنسان.

فنحن نعلم -بالتفصيل- الأبعاد الزمانية والمكانية لهذا الكون، ولا يمكن أن يعلم غيرنا ذلك إلا التخمينات والظنونات، فأخبار أبينا آدم عليه السلام ثم ما بعده من الأمم، كنوح عليه السلام وماذا حصل له، ثم عاد، ثم ثمود إلى إبراهيم عليه السلام.

أما أهل الكتاب فإنما تقتصر معلوماتهم على إبراهيم عليه السلام وما بعده، وأما ما قبل ذلك فلا يعلمون شيئاً إلا عن آدم عليه السلام، وأما نحن -أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنملك التصور الكامل في الماضي.

ثم ننتقل إلى المستقبل فنجد أننا نملك تصوراً سليماً عنه كأننا نرى هذه الأحداث أمامنا، نعلم أن ما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الفتن، ومن أشراط الساعة، ومما يقع في آخر الزمان، ثم كيف يكون النفخ في الصور، ثم الحشر، ثم البعث إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، فكل هذه الأبعاد الزمانية لا يمكن لأي عقل بأن يصل إليها، ولكن الإنسان المسلم يجد ذلك، بل العجوز المؤمنة تشعر بذلك، وهذا دليل واضح على أن عقل المسلم هو الذي يُفكر تفكيراً شمولياً، وتفكيراً عالمياً.

وقد جاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا الدين من عند الله، فنقل العرب من محيط التفكير القبلي المحدود، حيث كان الشاعر يتغنى في معشوقته، وفي ناقته، وفي أمجاد قبيلته، إلى التفكير العالمي، حتى أصبح العرب يتحدثون عن الفرس والروم وعن مصائر الأمم.

يجلسون المجلس ويتكلمون عن التأريخ السحيق، عن عاد وثمود، أو يتكلمون عن المستقبل البعيد، عن أحداث آخر الزمان، كيف سيكون الروم، كيف ستكون الملاحم، بل ويتحدثون -أيضاً- عن واقعهم، كيف ستكون أحوالهم؟ حتى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كما تعلمون- في الصحيح لما ولى الفرس ابنة كسرى، قال: {لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة}.

وهكذا أحداث عالمية كانت تقع ويتفاعل معها الواقع في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحابة الكرام، كما في أول سورة الروم، بشارة الله تبارك وتعالى أنه من بعد غلبهم سيغلبون وهكذا.

فعندما نتأمل مثل هذه الأمم، نجد أن الأصل في التفكير الإسلامي العادي هو هذه الشمولية، فكيف بالدعاة الذين يتصدرون لإصلاح أوضاع الأمة، وهم في وضع معقد، متشابك، متداخل الفكرة، أو المبدأ.

إذا حدث أمر بالمسلمين في باريس أو موسكو أو نيويورك تكون لدينا ويراها الملايين من أبناء هذه الأمة، فكيف يليق بنا عملياً ولو لم يكن نص على ذلك؟ من الناحية العملية، على الأقل، من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، لا بد أن نعرف هذه الأمور، وأن نعرف كيف نقاومها، ونعرف كيف نواجهها، وعندنا نماذج من هذا التفكير، والحمد لله هذا الإمام أحمد رحمه الله، عندما نستعرض سيرته، ونستعرض كتبه ككتاب الإيمان، وكتاب الأشربة، وكتاب الزهد وغيرها، نجد العجب العجاب.

كان الإمام أحمد رحمه الله له معرفة ودراية وبصيرة بالرجال، فيعرف مذاهبهم وآراءهم واعتقاداتهم، وهذا مذكور في كتب الجرح والتعديل وهو معلوم للجميع.

كذلك كان رحمه الله على اطلاع واسع وعجيب.

فمثلاً: بالنسبة لأحوال الناس المعيشية، كان يسأل عن بعض النواحي من بغداد، فيقول: هذه الأراضي كانت وقفاً، وهذه اغتصبها الظلمة، أخذها بنو فلان، فهذا التفكير شمولي، ومستوى عالٍ، وهو إمام أهل السنة والجماعة بإجماع العلماء رضي الله عنه وأرضاه.

أيضاً بالنسبة للفرق، كان بصيراً بمآخذهم وأسباب ضلالهم، وفي كتاب الإيمان نجد نوادر عجيبة عنه مما ذكر الخلال، وفي المسند نجد أموراً عجيبة جداً تدل على فقهه وفطنته رحمه الله، حتى إن شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله، في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم ذكر عن الإمام أحمد، أموراً عجيبة في مسألة المشابهة، وكان يعرف أن هذه من عادات المجوس، ومن عادات النصارى، وهذه من عادات كذا، مما لا نعرفه نحن مع الأسف -الآن- بل قد يكون في بيت أحدنا أمور من شعائر النصارى، أو المجوس، أو ربما تكون في ملابس أهله، أو مع أبنائه، وهو لا يدري، ولا يعلم بها، هذه ليست أبداً من منهج أهل السنة والجماعة.

وإذا انتقلنا إلى مثال آخر، وهو شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، وقد ضرب في كل علم بسهم، فعندما يسأل عن مسألة جزئية، يبتدئ حديثه من كلام اليونان فيها، فينقض كلام أرسطو، وأفلاطون، ومن بعدهم، ثم يعرج على الفلاسفة الآخرين من الهندوس وغيرهم، ثم يعرج على الفلاسفة الذين يسمون بالإسلاميين، ثم يأتي على المعتزلة، ثم على الرافضة وهكذا حتى يبين الحق ويرد على أهل الباطل في هذه المسألة.

هذا منهج واضح، وهذه الكتب والمجلدات - التي ألفها- وهي كتب نفيسة، متعمقة، عظيمة، ويمكن أن نستخرج منها شتى أنواع العلوم: في الفلك، والطبيعة، والرياضيات، والأحياء، والسلوك، وعلم النفس، وعلوم أخرى كثيرة، وكثير من الباحثين في الغرب والشرق لم يتوصلوا إلى مثل ما توصل إليه شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية -رحمه الله- في هذه العلوم، وفي هذه القضايا، فإنه إذا تكلم عن أي فن، فإنك تشعر وكأنه من أهله، حتى عندما تكلم عن الخرافات، وانحرافات المشعوذين، والسحرة، فإنه يتكلم عنها كلام البصير، العارف كيف يستحوذون على عقول العامة بهذه المخاريق الكاذبة، حتى دعوى النصارى للمعجزات التي يسمونها المعجزات، يبين بالأدلة العلمية كيف أنها ما هي إلا حيل شيطانية ويذكرها بكلام لا يدركه أحد من الناس إلا من كان متخصصاً في الكيمياء أو في الفيزياء أو نحو ذلك.

وأما النموذج الثالث وهو: الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- مع أن دعوته كانت محدودة الاطلاع من ناحية الصلات الخارجية، لكنها كانت عالمية المنحى والتفكير والمنهج، وكانت مستوعبة لواقعها في الجزيرة استيعاباً كاملاً كما كانت تتلمس المصادر عن العالم الخارجي، ولذلك انتشرت -والحمد لله- في أطراف إفريقيا وغيرها، والهند، وغيرها.

فكانت دعوته منطلقة من واقع معرفته ودراسته وخبرته.

في الحقيقة أن القول بأننا لا نفقه الواقع، أو أنه لا ينبغي معرفته، أو أنه لا تجب معرفته، هذا مخالف لما هو مقرر بالبداهة في العقيدة الإسلامية الصحيحة، التي هي العقيدة، والدعوة العملية التي تسعى إلى إقامة هذا الدين، والذي لن يقوم أبداً إلا برجال يدركون هذه الأمور إدراكاً صحيحاً واعياً.