للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بين عدالة الغرب وعدالة الإسلام]

إذا عدنا إلى المستقبل القريب الذي يعيشه العالم اليوم، وأردنا أن ننظر إلى بشائر العودة إلى الله والإنابة والتوبة إليه من جهة، وإلى واقع العالم الغربي من جهة أخرى، فإنه تتعارض لدينا قضيتان.

القضية الأولى: التفوق العلمي، والتفوق التكنولوجي والمادي الذي يعيشه العالم الغربي، بحيث إنه يمتلك من العتاد والسلاح والأساطيل والصواريخ والقوى ما يجعل مجرد التفكير في حربه ومقاومته -كما يبدو ظاهراً- أمراً صعباً ومريعاً للغاية، أو مستحيلاً لا يمكن أن يفكر فيه إلا مغامر مهووس لا يقدر العواقب والأمور، كما يتصور ذلك العالم الغربي على الأقل.

لكن في نفس الوقت نجد أن هذا العالم الغربي لديه الخواء النفسي والروحي الرهيب، فلديه الذعر الذي يسيطر عليه من داخله، وتسيطر عليه الجريمة، والإدمان بجميع أنواعه، والانهيار الاجتماعي وتفكك الأسرة من الداخل.

إذاً كما قال المفكر الإنجليزي (جود): 'نحن مثل الذي يملك قوة العفاريت ولكن بعقول العصافير، هذا العالم قوة عفاريت ولكنها بعقول العصافير'.

فإذا فقد الروح هذا الهيكل العظمي الحديدي الذي يتمثل في الأساطيل وفي الصواريخ وفي الصناعات، إذا فقد الروح فإنه مهما كبر فلن يؤدي أي دور على الحقيقة، بل هناك نظرية معروفة الآن على المستوى السياسي والدفاعي وهي ما يسمى بنظرية "توازن القوى" بمعنى أن الأمة التي تمتلك قنبلة ذرية أو هيدروجينية متفوقة على الأمة الأخرى، فإذا امتلك الخصم قنبلة مناظره أو مقابله معنى ذلك: أن كلا الطرفين لن يستخدم السلاح النووي، فسيضطر الطرفان أن يعقدا الاتفاقيات للحد من الأسلحة النووية، لأنه لا يمكن أن يستخدمها لا هذا ولا ذاك في المعركة؛ لأن كلاهما خاسر في المعركة فيها، فتعود الأمور إلى الأسلحة التقليدية.

وهناك ما هو أعظم من ذلك حين تعود المسألة إلى المعنوية النفسية، وهذا أمر مشاهد، فالإفلاس عند الإنسان الغربي في ضميره وروحه وأخلاقه، فكيف كانت أحوالهم وهم يحاربون في فيتنام بل وإلى الآن، فقد نشر أن في القواعد الأمريكية في بريطانيا قد يصبح الشخص مدمناً على المخدرات بحيث إن بقاءه في القواعد لا يصلح، وهذا يؤدي إلى أن يطرد يومياً شخص على الأقل ما بين ضابط إلى صف ضابط إلى آخره.

وانظروا إلى هذه العوامل إذا استمرت كيف يكون الفتك، وكيف إذا انتشرت الأوبئة والأمراض التي أصبحت حديث العالم وهَمَّ العالم، وهي منتشرة بلا شك بين العالم الغربي، ومنه جنوده هؤلاء، فنقول: إن عوامل الانهيار الذاتية في العالم الغربي تجعله يوماً من الأيام يستسلم ويركع أمام أي عدو.

فكيف إذا كان الخصم المقابل هو من يملك النور والهداية والبرهان والحق المبين، والعالم الغربي يفتقر اليوم إلى العدالة، ومن الذي يملك العدالة؟ فالعالم الغربي أحوج ما يكون اليوم إلى العدالة، فلا تغرنا مظاهر ما يسمى بـ الديمقراطية أبداً، فإن هذا عالم يحتاج إلى العدالة.

يقول (تومبي): "إن الديمقراطية -المزعومة بشعاراتها الثلاثة البراقة (الحرية، الإخاء، المساواة) - شعار براق لأن حياة الغرب في الحقيقة ما هي إلا صراع بين مبدئين: الحرية والمساواة"، كيف هذا؟ هذا كلام قد يستغربه بعض الناس، فيقول: إن حقيقة الديمقراطية ليست هي الحرية والإخاء والمساواة! بل إن فإن حقيقتها أن العالم الغربي يعيش في صراع بين مبدئين، وهما نفس المبدئين اللذين جاءت بهما الديمقراطية، بين مبدئي الحرية والمساوة، ولا يمكن على الإطلاق أن تتحقق المساواة مع الحرية، ولا أن تتحقق الحرية مع وجود المساواة أبداً، فكيف يأتي هذا المبدأ ويرفع شعارين متناقضين في وقت واحد، ويؤمن به العالم الغربي، وهو يعاني هذا الصراع.

ويقول: الكسس كاري في كتابه (الإنسان ذلك المجهول): إني أتعجب كيف تصبر الإنسانية على هذا الشعار السقيم أو العقيم، ولن يدوم صبر الإنسانية على هذا الشعار -يعني الديمقراطية - لماذا؟ يقول: لأنها تقضي على الفرد الممتاز، فـ الديمقراطية والمساواة المطلقة في أي وقت وزمان تقضي على الفرد الممتاز المتفوق؛ فبالتالي فإنها تحشر الناس قوالب كبيرة جداً في أطر معينة، فإن فتح المجال للحرية ظهر التفاوت الكبير الذي لن تتحقق معه المساواة.

فالعالم الغربي يفتقد للعدل، يقتل عدد من رؤساء الدول أو رؤساء وزراء الدول بتدبير من شركات السلاح، وتستمر القضية (٢٠ سنة) وأكثر ولا يعلم القاتل، أين العدالة؟ إن هذا ليس بشراً عادياً، إنه هذا رئيس الدولة، ولا يعلم قاتله، ولا تقتص العدالة من الجاني، إذاً هذا العالم يعاني الإفلاس الرهيب من العدالة، فأين توجد العدالة؟ وأين يوجد العدل؟ وأي أمة على ظهر الأرض تملك العدل؟ هل في الطرف الآخر الشيوعية؟ كاتب غربي مشهور يدعى (آرثر فوستلر) جرب الشيوعية وجرب الرأسمالية، ثم كتب عن ذلك كتاباً يقول فيه: كثير من الناس يتكلمون عن مساوئ الشيوعية وينسون مساوئ الرأسمالية، وكثير منهم يتكلم عن مساوئ الرأسمالية وينسى مساوئ الشيوعية، أما أنا فأقول: لعن الله كليهما.

يقول: إن الاثنين كلاهما مفلس، وهذا كاتب كبير على مستوى العالم، وأظنه فاز بجائزة نوبل، يقول: إن الاثنين ملعونين، وإنهما سواء ليس هناك من عدل.

إذاً: فمن الذي يملك العدل؟ إنها الأمة الربانية التي تملك شريعة الله التي لا تحابي ولا تجامل أبداً، الأمة التي علمت الناس العدل.

ونضرب مثالاً واحداً على العدل، وما أكثر الأمثلة على ذلك العدل وغيره.

كانت مصر مستعمرة للدولة الرومانية، التي هي قبل الحضارة الغربية في سلم التسلسل الأوربي للحضارات، وكان الروم طبقتين -نفس الشعب على طبقتين- طبقة الأسياد، وطبقة العبيد، وطبقة العبيد في الدولة الرومانية يتحكمون في أبناء الشعوب المفتوحة مثل مصر والشام، فكانت منزلة الإنسان المصري أو السوري هي طبقة عبيد العبيد للامبراطورية، وما الذي حصل عندما دخلوا في دين الله عز وجل؟ بعد أن فتح المسلمون مصر ودخلوا فيها، وأتى - ابن عمرو بن العاص ابن القائد الفاتح الذي يحكم مصر - فلطم أحد أبناء الأقباط، فما الذي وقع؟ يأتي هذا القبطي ويشد رحله -ناقته- ويسير المسافات والأيام إلى أن يصل المدينة ويقول لـ عمر: إن ابن فلان لطمني، ودعونا من عدل عمر المعروف، ثم دعونا من قضية الإسلام، وأنه لا يُقر لأحد أن يعتدي على أحد، مهما كان هذا المعتدي كبيراً أو ابن كبير، فهذا منكر وجريمة لا يقرها الإسلام، وهذا معروف، لكن انظروا ما الذي جعل القبطي يثأر لكرامته، ويرحل هذه المسافات البعيدة ليقتص ممن لطمه، وهو منذ سنوات كان هو وأعظم شخصيات بلده عبداً لعبيد الامبراطورية الرومانية، فهذا الانقلاب الكبير أحدثه الإسلام، وأحدثته عدالة الإسلام.

يفتح جيش قتيبة بن مسلم الباهلي رحمه الله وهو من كبار قواد المسلمين، وكما في تاريخ الطبري، وابن كثير من قرأ فيهما يجد ما لقي المسلمون من عنت شديد من أهالي سمرقند وما حولها من البلاد، يصالحون ثم يغدرون، ويصالحون ثم يغدرون، حتى تعب المسلمون وخسروا أبطالاً عظاماً.

فـ قتيبة بن مسلم رضي الله تعالى عنه ورحمه صالحهم، ولما صالحهم وهو يعلم أنهم سيغدرون بدأ بهم فهاجمهم؛ فتمكن منهم فقضى عليهم، فجاءت العدالة التي لا يؤمن بها أولئك الوثنيون ولم يسمعوا عنها، فقالوا: لا بد أن نذهب ونشتكيه؛ لأن هذه أمة لا ترضى الظلم، فذهبوا إلى الخليفة.

وكان الأمر قد آل من سليمان بن عبد الملك الذي أرسل قتيبة إلى الخليفة العادل الراشد عمر بن عبد العزيز، فقالوا: يا عمر إننا قد صالحنا جيشك ثم غدروا بنا، ونحن جئنا نشكوهم، فقال: أهكذا كان؟ قال المسلمون: نعم -فليس لدينا كذب فنحن أمة العدل- لماذا؟ قالوا: لأنهم غدروا بنا مرات، فقلنا: لابد أن نصالحهم ثم نغدر بهم وتمكنا منهم فقال: لا، وأمر الجيش بأن يخرجوا وأن يبقى الصلح.

فليغدر عدونا ما شاء وليكذب ما شاء، فنحن لا نكذب لأننا أمة العدل، إذا أردنا أن نحاربهم ننبذ إليهم على سواء، ونقول لهم: انتهى الصلح الذي بيننا وبينكم فاستعدوا، فلما رأوا ذلك تعجبوا وظنوا أن الأمر كذب وإذا به حقيقة، وإذا بالجيش ينسحب، فما كان منهم إلا أن أسلموا عن حق وحقيقة ودخلوا في دين الله، وبقيت معقلاً من معاقل الإسلام، ونسأل الله تبارك وتعالى أن تعود كذلك.

هذا من ناحية إفلاس العالم الغربي في العدالة، وإفلاسه في القيم، والأمن، والأسرة المتماسكة.

هناك أيضاً قضية مهمة جداً وهي: أن الوهم الذي كان يسيطر على العالم، وهو أن العالم الغربي لن يستطيع أن يقاوم صواريخه وأساطيله أية أمة من الأمم، هذا الوهم قد تبدد وتبخر بنموذج إسلامي حي معاصر وهو أفغانستان، شعب أعزل يحارب بالبنادق المصنوعة في القرن التاسع عشر، على نمط البنادق القديمة التي تحاربت بها النمسا وفرنسا في القرن التاسع عشر -قديمة جداً- يسلب من عدوه الرصاصة الواحدة، ليعيدها إلى صدر عدوه، ومع ذلك يحارب أعتى دولة في القسم الشرقي من العالم.

وتعلمون جميعاً -ولله الحمد- كيف آلت أمر هذه الحرب، وبدون أية مساعدة وتدخل عسكري من أي دولة إسلامية أخرى أبداً، هذا الشعب الأعزل بمفرده يقاوم هذه المقاومة العنيدة الأبية الصامدة مع ضعف في التربية بلا شك، ومع تفرق ابتليت به الأمة الإسلامية، ومع عوامل كثيرة لا يهمنا الآن أن نعددها، ولكن الذي يهمنا هو أنه مع هذه العوامل