للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الحكمة في تكسير إبراهيم للأصنام والفرق بين الهمة والعاطفة]

السؤال

ما معنى قولك: إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كسر الأصنام بأسلوب حكيم وبنظر بعيد، ثم صارت العاقبة أن أراد قومه حرقه، وهل يوجد فرقٌ بين الهمة والعاطفة؟

الجواب

المقصود يتضح بالمقابل، فإنه بالنظر إلى الخليلين: إبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما، كل منهما حطم الأصنام، وكل منهما جعله الله تبارك وتعالى إماماً للناس في الإيمان والتوحيد، كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل:١٢٣]، فالله هو الذي جعله إماماً للناس، ولا شك في إمامته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للناس.

أقول: إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه خطط وعزم أنه إذا ذهب الناس إلى لهوهم، فإنه سوف يحطم الأصنام جميعاً، ويستبقي الكبير ويضع الفأس في عنقه، يعلقه عليه، ثم يقول: إني سقيم، هكذا يفعل، حتى الإعداد للمناظرة، فإنهم قالوا: من فعل هذا؟ قالوا: سمعنا فتىً يذكرهم يقال له إبراهيم، فجاءوا به، أأنت فعلت هذا؟ قال: بل فعله كبيرهم هذا، فاسألوهم إن كانوا ينطقون، وهذا تصرف بعيد جداً عن العاطفة.

لو قال: نعم أنا أكسرها وأكسر رءوسكم -كما يقول بعض الشباب- فهذا لا يصلح، لأن هناك قلوب ميتة، وهناك عواطف ميتة، الفطرة ماتت في قلوب هؤلاء الناس، ما الذي يحركها لتصحوا وتفيق على أنه لا إله إلا الله؟ يكون ذلك عندما يرى معبوده وربه جذاذاً، وهو الذي كان يدعوه، ويتمسح به، ويستغيثه، ويذبح له، الآن أصبح جذاذاً، ويُحاكم هذا الفتى لم فعلت هذا؟ وكيف تفعل ذلك؟ فيقول: لم أفعل، واسألوا كبير الآلهة، والفأس معلق في عنقه.

إذاً يمكن أن يكون هو الذي فعل، والحقيقة أنها لا هي التي دافعت عن نفسها، ولا هذا الكبير دافع عنها، ولا هو الذي حفظ نفسه وسلم، ولا يستطيع هو أن يفعل شيئاً، ولا تلك التي تحطمت، فرجعوا إلى أنفسهم، وقالوا: إنكم أنتم الظالمون.

والموقف لو تأملتموه لوجدتم أنه موقف -فعلاً- فيه الحكمة، وفيه وضع الشيء في موضعه، رغم أنه لا شك لا يقوم به إلا ذو وجدان حي متوثب.

ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كان في مكة، وهو يطوف ويعبد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ومعه الصحابة، لم يحطموا الأصنام، ولكن متى حطَّم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأصنام؟ حطمها عام الفتح، لما فتح مكة، ودخلها ودخل الناس في دين الله أفواجاً، حطمها حينئذٍ، لأن المصلحة هنا، والحكمة تقتضي ذلك، فكلا الرسولين حكيم، وكلاهما وضع الشيء في موضعه.

وأما بالنسبة للشق الآخر من السؤال وهو هل يوجد فرق بين الهمة والعاطفة؟ أنا لا أحب أن أدخل في تعريف العاطفة، والعقل، والهمة، والدافع، والشعور وغيره، وهذا كله موجود في علم النفس، وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أصدق الأسماء حارث وهمام}.

وهذا مثال من الأمثال: وبعض الناس يسمي ولده الأول: حارث، والآخر: همام، لماذا؟ قالوا: لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {أصدق الأسماء حارث وهمام}، والحقيقة أن القصد هو تحبيب هذا الاسم، ولا يعني ذلك تفضيل هذا الاسم على غيره، مثلاً إذا سمينا شخصاً بجميل، يمكن ألا يكون جميل، ويوجد كثير من الناس يسمي نفسه بشيء وهو عكسه تماماً، -مثلاً- رجل اسمه كريم، قد يكون بخيلاً، وهكذا.

لكن التسمي بحارث أو همام -مثلاً- إنما هو تعبير صادق على أي إنسان، فإن كل إنسان هو صاحب خير، أو صاحب شر، وأياً كان حاله، فهو حارث وهمام، فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ} [الانشقاق:٦]- عام: لكل إنسان- {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:٦]، فهذا حارث، أي: كادح يحرث إما معصية أو طاعة، المهم أنه يحرث، وكذلك همام، فإن كل إنسان يهم كل يوم، وكل واحد في هذه الدنيا، كافر أو مؤمن -أياً كان- كل يوم يفكر في شيء ما، ويريد أن يحققه وهكذا، ومن هنا تكون الهمم متفاوتة، وتكون الهمم مختلفة جداً ومتباينة، فالهمة هذه تستنفر العقل، وتستنفر الوجدان.

وأكثر وأعظم الناس همة هم الذين يريدون الله والدار الآخرة، وهذه هي الهمة العالية، وشخص يقول: أنا كدحت بعرقي وبجبيني حتى عملت مؤسسة، وصار عندي فروع للشركة؛ والآخر يقول: كدحت واجتهدت حتى أخذت درجة عليا؛ والثاني يقول: أخذت المرتبة العاشرة أو الثانية عشرة، يا سبحان الله! هذا من العاجلة قال تعالى: {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} [الإنسان:٢٧].

أما المؤمنون فإنهم أصحاب الهمة العالية، عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه يقول: [[تاقت نفسي إلى الإمارة، فلما وليتها، تاقت نفسي إلى الخلافة، فلما وليتها تاقت نفسي إلى الجنة]] فهذه هي الهمة العالية، وليس معنى هذا أنه سعى إلى الخلافة ورغبها، لكن قد تأتي كل إنسان خواطر، لو كنت كذا، لو أني حصلت على كذا، لكن الهمة العالية هي بأن يريد الإنسان رضا الله والدار الآخرة، ويريد الجنة جعلنا الله وإياكم من ورثتها.