للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أضرار العاطفة في فهم الأحكام الشرعية]

السؤال

التزمت بدين الله -ولله الحمد- فبدأت بتقصير الثوب، ولبس العمامة؛ لكني وجدت ظروفاً وانتقاداتٍ حزت في نفسي؛ فعدت إلى خلع العمامة وعدم تقصير الثوب، فأصبح زملائي يقولون عني: إني عدت عن الالتزام، وعدت إلى الضلال، فماذا أفعل؟

الجواب

نعم! انظر كيف تتراجع العاطفة وتتأرجح إلى العكس، وقد ذكر السائل -جزاه الله خيراً- قضية يقع فيها بعض الشباب؛ فأول ما يبتدئ في الالتزام -فعلاً- يضع العمامة مثلاً؛ فيبدأ الناس ينظرون إليه.

فيقول: مالي وللناس؟ أنا اهتديت، ولبست العمامة.

أقول: أولاً كما قلت: ما موقع العمامة من الدين؟ بمعنى أنه قبل أن يفكر بذلك، كان عليه أن يسأل حتى عن أحكام الدين أو بعض أموره، فيرتبها أو يسأل عن ترتيبها، فالعمامة ما موقعها؟ والتمسك بها ما موقعه من الدين؟ ثم بعد ذلك ينظر هل المصلحة أن يلبسها في هذا الوقت؟ وما الحكم فيها؟ فيسأل عالماً ممن يفتيه، ويبين له موقعها من الدين، ثم بعد ذلك يقول: هل أطبقها؟ وكيف أطبقها؟ وهكذا في كل شيء.

إذاً ليست القضية قضية العمامة فقط، فأنا أعرف كثيراً أو بعضاً من الشباب -والحمد لله- تمسك واستقام واهتدى، فما خطرت له العمامة على بال، لماذا خطرت لهذا وما خطرت لذاك؟ لأن الآخر لا يرى ذلك، وليس لأنه سأل العلماء، فقالوا له: حكم العمامة؛ بل إنه في ذاته قال: لا داعي للبسها، وأنا أجزم أن هذا واقع.

وقد يقول قائل: هذه قضية لا فائدة منها.

أي أن هناك أموراً يمليها على الإنسان وجدان خاص -مشاعره الخاصة- وكأنه يريد أن يعرف حكمة معينة لديه، وأن هذا العمل ما ينبغي؛ بغض النظر عن كونه قد يطبقه أو لا يطبقه؛ لكن هذا في البداية ومنذ اللحظة الأولى، بعد ذلك تأتي القواعد أو العلم التفصيلي ليضبط لك كل أمر في موضعه، فهناك أمورٌ تعرفها -أنت- بالبداهة وبالتجربة والواقع، وأما بالعلم فهل شرع لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسن أن نلبس عمامة؟! لا بد أن يفكر بها ويضعها هكذا، نقول: لا، حقيقةً ليس هذا مما شرع.

ونريد أن نوضح قضية مهمة في هذا المجال، وهي أن التمسك بالظاهر سهل جداً؛ ولهذا إذا أراد المنافق أن ينافق فذلك سهل عليه، كأن يأتي أحدهم ويريد أن يعمي علينا، فإنه سيعفي لحيته مثلاً، ويقصر ثوبه ويأتي ليصلي كما كان المنافقون يصلون خاصة الظهر والمغرب، أما الفروض التي يكون نائماً فيها فلا يأتي.

إذاً فالتمسك بالظاهر سهل؛ ولكن ما هو الصعب؟ إنه الإيمان الباطن؛ وكلاهما لا ينفصل عن الآخر، ويجب أن نقيمهما معاً، ولا نتهاون في شيء منهما.

بعض الدعاة الآن إذا رأوا الظاهر، يقولون: الأمر بسيط يا شيخ، فالثوب ليس مشكلة، واللحية ليست مشكلة، ونحن لا نتكلم فيهما.

فما دامت يسيرة بهذا الشكل فافعلها يا أخي! وحقيقةً أنها تكون يسيرة بالنسبة للإيمان الباطن، لكن لا بد أن نقوم بهذا الدين جملةً واحدة، ونحيط به من جميع جوانبه، واضعين كل شيءٍ في موضعه؛ فكل من لبس العمامة، وحصل له مثل هذا الأخ الذي لبسها على أنها من الدين، فلتكن مشاعرك وأنت تلبسها ليست شعور إنسان طبق سنة؛ بمعنى أني أنا -مثلاً- أو أي شاب مستقيم في سنوات طويلة قرأ في كتاب من الكتب، ووجد سنة من السنن التي طبقها ببساطة جداً.

لكن -هذا الأخ- أول ما اهتدى لف العمامة وكأنها ركن، وكأنها رمز الأصالة، ورمز للتحدي للماضي، وكأنه يقول: إني ابتعدت عنكم يا أصحاب الشماغ أو الغتر! وأنا الآن تميزت وانفردت، وأنا كذا وكذا، ولا يقصد العمامة في ذاتها، بل يقصد ماذا؟ أي: أنني الآن استقمت -بمعنى- وكأنه يقول: الآن اهتديت، والآن استقمت فأصبحت في مظهر غير مظهركم، فإنه ومن هذا المنطلق يكون قد انطلق من منطلقٍ سليم ولا شك في ذلك؛ لكن من حيث الحكمة في العمل، ومن حيث تحقيق المصلحة فلا، وأنا أقول للأخ الذي استقام حديثاً: أما بالنسبة للعمامة فإنها لا تلبس، وليست من مجتمعنا.

فإخواننا في السودان يلبسون العمامة، فالبس العمامة، ولا بأس في ذلك، فإخواننا المسلمين يلبسونها، وديننا دين -والحمد لله- واسع، ونحن لا نفتي الناس في السعودية، ألا يلبسوا العمامة، فديننا واسع، وأهل كل بلد يجوز لهم أن يلبسوا ما اعتادوا أن يلبسوه ويرتدوه؛ ما لم يكن حراماً.

فلتبق عليه ما لم يكن حراماً وما لم يكن إثماً، وحتى إن كان فيه شيء من المكروهات فأخرها قليلاً.

وأما الثوب فأيضاً في المرحلة الأولى: أنصح بأن يقتصر الشاب -مع إيمانه القوي بضرورة تطبيق السنة واتباعها- على رفعه عن الكعبين فقط، فيرفعه عن الكعبين بقدر لا يثير عليه أحداً، لأنك الآن مثل إنسان ملك سلاحاً ضعيفاً، أي: بالنسبة للباطل، فسلاحك مسدس -مثلاً- لكنك تستثير عليك من يملك المدافع والقنابل وهذا لا يصح، فبعض الشباب مسكين لما رآه أبوه والثوب هكذا -أي: قصيراً إلى الركبة تقريباً- والعمامة أيضاً، وبدأ أيضاً يترك أصحابه كذلك، وبدأ ينتقد المدرسة وينتقد الحياة بشكل عجيب! لا شك أن هذا يؤدي إلى أن يعتبر الأب أن هذه انتكاسة كبرى، فيصر إصراراً عنيداً على أنه لا بد أن يكون مسبلاً، وأن يكون عاصياً ومجرماً وفاسقاً.

فأقول: أما الإيمان فاجعلوه إيماناً حقيقياً باطناً، والأعمال الظاهرة التي قد تثير مشاعر الناس وينتج عنها مفاسد، نطبقها في حدود اجتناب المحرم؛ فأما المحرم فليس فيه نقاش، ويجب أن نجتنبه إلا في الحالات الخاصة، ونقول هذا الكلام: لأن بلاد المسلمين ليست هي السعودية فقط، ولا نستطيع مثلاً أن نتكلم عن واقعنا الآن فقط، فالكلام يجب أن يكون -في الجملة- عاماً.

فالواجب أحياناً في مواقع خاصة قد يؤخر لمصلحة الركن؛ لأن الأصل أن نحقق الركن أولاً، فنقوي إيماننا لكي نعرف كيف ندخل إلى هؤلاء الناس من مدخل الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ ثم بعد ذلك تأتي هذه السنن -بإذن الله- تباعاً.

أما إذا جعلنا السنة ركناً؛ فإننا سننسي بقية الأركان، وهذه قاعدة معروفة، وهي أن الإنسان إذا فرط في جانب أو غلا في جانب؛ فلا بد أن يفرط في الجانب الآخر.

فـ الخوارج أول ما خرجوا كانوا يرون أن من كذب أو زنى أو سرق -أي: أن من ارتكب كبيرة- كفر وخرج من الملة، حتى آل بهم الأمر -عما قريب- إلى أن أنكروا سورة يوسف، وأنها ليست من القرآن -والعياذ بالله- فالغلو لا يؤدي إلى خير، وإن شئت فقل "الشطط العاطفي" سواء كان في خروج عن الدين أو خروجٍ عن الحكمة أو عن مقتضيات المصلحة.

فعلى الإنسان أن يضبط نفسه منذ البداية، وأن يقف الموقف الصحيح ولا يبالي بعد ذلك بكلام الناس.

فنقول لهذا الأخ الذي رجع: لا يصح ولا يجوز لك أن ترجع إلى الإسبال؛ لأن الإسبال حرام، وأما العمامة فاتركها، والبس كما يلبس الناس، وليس عليك أي إثم بالرجوع، فإذا قالوا: الآن اهتديت أو عدت.

نقول: إنك قد انحرفت عن الالتزام، فلا تبال بكلامهم، وانظر إلى ما يحقق المصلحة.

والنصيحة للجميع في مثل هذه الأمور؛ لأننا في مجتمع، ويجب أن ننظر إلى كيف نخاطب مشاعر الناس، فلا نثيرها ولا نجرحها.