للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[النوع الثاني: المصادر الظنية]

لا نقول: إنها باطلة، ولا نقول: إنها يقينية، وسوف تتضح الفكرة عندما نذكر أنواعها وتفصيلها.

النوع الأول: من المصادر الظنية لمعرفة ما سيقع هو الرؤى والمنامات الحقة، وليست أضغاث أحلام، فهذه الرؤى مبشرات كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يستطيع أحد أن يجزم بأن تأويلها كذا إلا إذا كان بوحي؛ فرؤيا الأنبياء وحي لا شك في ذلك، وكذلك تفسير الأنبياء وحي كما فسر يوسف عليه السلام فتفسيرهم حق، لكن من عداهم مهما كان معبراً أو محدثاً، فإن كلامه يحتمل الخطأ والصواب، ومن هنا فإن هذا يدخل في النوع المظنون، ولكن من الناس من يوفقهم الله تعالى، فيكون تأويله في الغالب صواباً، ومنهم من يكون دون ذلك، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عدّل أو صحح تأويل أبي بكر رضي الله عنه، وهو أفضل هذه الأمة بعد رسولها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يكن تأويله مطابقاً (١٠٠ %) بالدقة، وهذا دليل على أنه لا يصح ولا يمكن لأحدٍ بعده أن يدعي أن تأويلاته للرؤى صحيحة وسليمة (١٠٠ %).

النوع الثاني من المصادر الظنية: هو ما عند أهل الكتاب من أخبار مما لم يأت في ديننا ما يدل على بطلانه، لأن ما عند أهل الكتاب إما أن يأتي في شرعنا وديننا مما يدل على أنه حق وصواب فهو حق، أو يأتي في شرعنا وديننا ما يدل على أنه باطل فهو باطل، والآخر المسكوت عنه الذي لم يأت ما يؤيده ولا ما يبطله، فهذا يظل نوعاً من الظن لا نستطيع أن نجزم ببطلانه، لاحتمال أن يكون من بقايا الحق الذي لديهم، ولكن لا نثبته؛ لأننا نعلم قطعاً أنهم قد حرّفوا وبدّلوا في كتبهم، وجائز أن يكون هذا مما أضافوه وكتبوه، إما بألفاظه، وإما بتأويله، فهذا وارد وهذا وارد، وعلى هذا نقيس كل ما يروى عن كعب الأحبار ووهب بن منبه وأمثالهما من أخبار الملاحم والفتن التي تكون وتقع في آخر الزمان.

- النوع الثالث من المصادر الظنية: هو الدراسة العلمية التي يمكن أن نسميها "الاستنباط العقلي" أو الاجتهاد بالنظر في سنن الله الكونية، فإن الله تبارك وتعالى جعل سنناً في هذا الكون لقيام الدول ولسقوطها ولحياتها ولنمائها، للأفراد وللصناعات وللتجارة وللاقتصاد فلكل أمر من هذه الأمور سنة كونية في حياته وموته، فلله تبارك وتعالى أسرار وحكم ونواميس وسنن جعلها، وبقدر ما يدركها الناس ويعرفونها يستطيعون أن يصلوا إلى الحق، وذلك مثل: ما كتبه ابن خلدون رحمه الله باجتهاده ونظره في أحوال العالم عن قيام الدول والأمم والحضارات وعن سقوطها، وهذا النوع توسع فيه الغربيون -على ما سنشير إليه إن شاء الله- وكتبوا وأفاضوا فيما بعد ذلك، وهذا النوع لا يدخل في الغيب ولا في التنجيم ولا في الكهانة، ولكن -أيضاً- ليس يقينياً وليس بوحي، وإنما هو استنباط من الحق -أي: من الوحي- أو استنباط من الواقع، فيتأملون أحوال الأمم وأسباب انقراض الدول وتدمير الحضارات، فيستنبطون وقد يصلون إلى شيء من الحق والصواب بقدر ما يعطي الله تبارك وتعالى المرء منهم من فهم لكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو فهم في تحليل الواقع -واقع هذه الأمم- وكيف تعيش، وكيف تتدمر.

فهذا -أيضاً- نوع من أنواع المصادر الظنية التي تقبل الخطأ وتقبل الصواب، لكن الغربيين ركزوا وشددوا عليه تشديداً مطلقاً كما سنبين إن شاء الله.