للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المسلمون الأوائل والوقت]

ولو تأملنا كيف اغتنم السلف الصالح أوقاتهم؟ لرأينا عجباً عجاباً وبحراً عباباً، لا نستطيع أن نفيه حقه.

كان أبو سليمان الداراني يقول: ' أحب ما عندي في الدنيا الليل، ولولا الليل لما أسفت على شيء من الدنيا, وإن أهل الدنيا لم ينالوا شيئاً من لذة أهل الجنة، إلا ما يجده أهل العبادة في الليل ' وهذه هي التي عبر عنها شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية عندما قال: 'إني لأكون في حالٍ أقول فيه لو أن أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي خير كبير' ليس كمن قال:

ما قيمة الليل لولا العود والوتر

لا بل:

ما قيمة الليل لا تتلى به السور

كان عبد الله بن قيس رضي الله عنه الذي كان يقال له: راهب هذه الأمة يقول عندما جاءه الموت: 'والله لا أبكي على ذهاب الدنيا -كما يبكي الناس عند الموت على الأموال وعلى الأهل- ولكني أبكي على ظمأ الهواجر في الصيف، وقيام الليلة الباردة في الشتاء' فهو يبكي على هذا الوقت، لأنهم كانوا يصومون في شدة الحر، ويقومون الليلة الباردة في الشتاء.

ما أبعد حالنا عن حالهم! كانوا يعلمون أن هذا الوقت غنيمة وأنه فرصة يجب أن تستغل وأن تغتنم لعبادة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ولهذا ما كان يفوت أحدهم شيئاً من وقته أبداً، كان إما طاعة وإما عبادة، وكله عبادات وطاعات أو صلاة أو صيام أو فكر أو تذكر، فلا يخلو المؤمن من الفكر أو الشكر أو الذكر.

والفكر: شيء عظيم يغفل عنه كثير من الناس، ألا ترون أننا في هذه الأيام فيما يسمى بالعطلة، والتي نعطل فيها كل شيء، حتى إن البعض قد يعطل الجمعة والجماعة وكل شيء، لأنها عطلة! كلا، بل الأصل أن الإنسان إذا أراد أن يذهب إلى بلد آخر، فأمامه فرصة عظيمة لاغتنام الوقت في التفكر في آيات الله، وفي مخلوقات الله، والتفكر في ملكوت السماوات والأرض، فهذا البحر أليس فيه ما يثير العجب العجاب عند المؤمن؟! وهذه الكواكب والنجوم، لو تفكر الإنسان التفكر الصحيح لكان فيه من صفات المتقين، بل لكان في الذروة وهم أولو الألباب كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:١٩١] سبحان الله! كيف هذه النجوم وهذه السماء وهذا الليل والنهار؟! فأنت تنظر وتقف مع الناس وكلهم ينظر إلى البحر وأنت تنظر معهم، ولكن شتان بين ناظر وناظر! ترى الحيوانات والمخلوقات، ولكن شتان بين ناظر وناظر، هذا ينظر في السمكة أنها سمينة تصلح للأكل، أما الآخر فينظر فيجد عجائب خلق الله، فيقول: سبحان الذي جعلها تعيش في الماء، وأنا أعيش في الهواء سبحان الله العظيم! ويعلم أنها تسبح الله، حتى الصغار التي لا نكاد نراها تسبح الله، والبر والبحر كله مليء بمن يسبح الله، {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:٤٤] ونحن غافلون لاهون لاعبون عابثون نضيع الأعمار والأوقات.

ونقول: نتمتع ثم بعد ذلك نطيع الله ونتقيه، وهذا هو طول الأمل وهو أكثر ما خافه السلف الصالح، ولهذا كان يقول أحدهم: والله إني لأصلي الفريضة فلا أنتظر ما بعدها وإلا فلماذا خشعوا في صلاتهم؟! لأن الواحد منهم كان يصلي صلاة مودع، لا ينتظر ما يصلي بعدها، فهذه هي الأخيرة فيخشع، والثانية الأخيرة فيخشع، فكان العمر كله خشوعٌ وعبادة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وليس هناك طول أمل.

وطول الأمل عجيب عند بعض الناس، وقد أخبرني أحدهم فقال: تعاقد أحد التجار مع شركة -وهي شركة كافرة- على بناء مصنع من المصانع، فقال لهم: كم يمكن أن يستمر المصنع إذا أخذناه على أصل الأنواع والآلات؟ قالوا: يمكن أن يعمل مائتي سنة، ونضمن لك أن المصنع ما يزال يعمل هذه المدة، قال وبعد هذا أقفله! فكم عمرك ستين أو ثمانين، وكم بقي لك من عمرك؛ ولكن قد أودع الله في الإنسان طبيعة حب التراث حباً جماً ولا شك كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:٨].