للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التربية بالمعارك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم]

لما خرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بدر خرج معه من خرج، وقد أراد الله أن يصطفي تلك الطائفة بأن تكون من أهل بدر الذين قال لهم: {اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم}.

ويوم أحد خرج معه أول الأمر من خرج، ثم في آخر المعركة قال: {لا يخرج معنا إلى حمراء الأسد إلا من خرج معنا في أحد}.

وفي يوم حنين فر من فر، ويأتي يوم تبوك يوم تخلف المنافقون الذين كانوا يقسمون بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن، وهذه هي طبائع المنافقين أصحاب الوعود الكاذبة، والأماني الزائفة، -إننا نخاف على أنفسنا من النفاق، ونخاف أن تنطبق هذه الآية علينا، وإن كانت عن النفاق؛ لكنها قد تنطبق علينا بسبب ما فينا من الفتور، وضعف الهمة، ووهن العزيمة- فهم يحلفون ويقسمون الأيمان، حتى إذا جاء النفير وقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انفروا؛ تخلفوا.

ثم يأتون بعد ذلك فيقسمون الأيمان إننا لمعذورون، فما منعكم؟ قالوا: شغلتنا أموالنا وأهلونا، ويعتذرون بالأعذار التي لا تنفعهم شيئاً عند الله، لكن الثلاثة الذين تخلفوا ولم يقبل منهم ولم يعتذروا بالكذب، والمقصود كيف عوقب الثلاثة؟ ولم؟ لأنهم تربوا، وزكيت قلوبهم على يد محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طويلاً، فلن تكون معاملتهم كأولئك! وذلك البناء الطويل بعد هذه الجهود العظيمة وهم من السابقين، رجلان شهدا بدراً والآخر شهد البيعة، فلا يمكن أن يكون الأمر بهذه البساطة.

انظروا إلى نوح -عليه السلام- لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، فكانت الحصيلة أنه ما آمن منهم إلا قليل، قيل: بضع وثمانون رجلاً وامرأة؛ فكان مجموع من آمنوا مع نوح -عليه السلام- حملتهم سفينة واحدة، والسفينة ليست لهم خاصة؛ بل حمل من كلِ زوجين اثنين، فكل من آمن مع نسائهم وأطفالهم، ومع من شاء الله له أن يحمل من الحيوانات.

وهؤلاء كلهم الذين نجوا نتيجة دعوة ألف سنة إلا خمسين عاماً لماذا؟ لأن الأمر ليس مجرد أن نوحاً -عليه السلام- يقول للناس قولاً، أو أن هذا الإيمان هين وسهل، بل الإيمان بناء عظيم، وتبعة كبيرة، يستتبع الواجبات الثقال على الإنسان، ومن هنا كان تفاوت الناس في الإيمان بقدر تفاوتهم في الهمم.

انظروا إلى الصحابة رضي الله عنهم كيف كانت هممهم قبل أن يسلموا، وكيف كانت بعد أن أسلموا، ماذا قال أبو جهل يوم بدر قال: لا نرجع حتى ننزل بـ بدر، فتعزف القيان ونشرب الخمر، وتسمع بنا العرب فلا تزال تهابنا أبد الدهر.

هذه همة الجاهليين في كل زمان ومكان؛ لكن الصحابة -رضوان الله عليهم- همتهم عالية، عظيمة، بعيدة، فعندما عرض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفسه عام الوفود على بني فلان وبني فلان، والكل يتململ ويعتذر، قالوا: نخشى قومك، وقالوا له: هل يكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر لله، والأرض لله يورثها من يشاء.

ثم جاء أصحاب الهمم العالية والنفوس المتطلعة إلى الأمر الأعظم فقالوا: ما يكون لنا يا رسول الله إن نحن فعلنا؟ قال: لكم الجنة، فقالوا: الجنة؟ ربح البيع إذن! والله لا نقيل ولا نستقيل، همة عالية أعلى من هذه الدنيا، ولا يعني ذلك أنهم لن يرثوا الأرض، بل أخبرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حياته فقال: {إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله} فأنفقت في سبيل الله عز وجل، وورث سراقة سواري كسرى لما كانت الهمة العالية المتطلعة إلى الأعلى، أورثت الأدنى تلقائياً.