للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أهل الكلام شابهوا اليهود في الضلال]

وأصحاب الضلال الذين ضلوا عن طريق العلم لهم نموذجٌ في هذه الأمة كثير، فمن أعظم النماذج أصحاب الكلام الذين يسمون علماء الكلام، الذين جعلوا دين الله عز وجل فلسفات وأموراً معقدة وغامضة، وأدخلوا فيه كلام اليونان وقواعدهم المنطقية، وأشباهها من الأمور التي يطلع عليها المختصون، ووصل غبارها إلى العامة أيضاً في كل أمر من الأمور، هؤلاء أشبه شيء بالأمة المغضوب عليها التي عصت الله عز وجل على علم.

وهؤلاء يقولون: إن الدين ليس اتباعاً، فلا نأخذه بالوحي، ويقولون: إن النصوص من الكتاب والسنة لا تفيد اليقين -نعوذ بالله- من أين نأخذ اليقين؟ قالوا: اليقين في القواطع العلمية، وفي البراهين النظرية التي تتفتق عنها عقولهم، أما نصوص الكتاب والسنة فهي ظواهر ظنية، هكذا يقولون وهكذا سول لهم شيطانهم والعياذ بالله.

ونضرب مثالاً فقط ليفهمه الجميع: علو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على خلقه، هل أحد ينكر أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فوق العالمين وفوق العرش؟ كما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥].

وأوضح من الاستواء: العلو نفسه، الفطرة الموجودة في كل إنسان تشهد أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في العلو، في السماء فوق العالم، فجاء هؤلاء وكابروا الفطرة وجحدوها وأنكروها، وقالوا: البراهين العقلية لا تدل على أنه في السماء، كما أخبر -والعياذ بالله- وردوا كل الآيات وكل الأحاديث، وقالوا: هو لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا عن يمينه ولا عن شماله نسأل الله العافية.

يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية: لو قيل لأحد عرِّف العدم فعرفه بهذا، فقال: لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته ولا يمينه ولا شماله لما كان أتمّ من ذلك، لكن هؤلاء يقولون: هذه هي القواطع والبراهين العقلية.

إذاً فالمتبع لديهم ليس كتاب الله ولا سنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، المتبع هو عقولهم وآراؤهم، ولهذا عاشوا في حيرة عظيمة.

هؤلاء أصحاب العقول وهم كثير في الناس حتى من العامة -إلا من رحم الله- تقول لهم: قال الله وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقول لك: لكن هذا -في عقلي- لا يمكن! في عقلك سبحان الله! وهل أحالنا الله عز وجل للعقول؟! أرسطو وأفلاطون وهؤلاء الذين يأخذون عنهم هذه العقول وغيرهم من الفلاسفة، كانوا موجودين قبل بعثة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أليس كذلك؟ لو أن هؤلاء لديهم الهدى، ولديهم الخير، والحق وسبيل الرشاد، ما احتاج الناس إلى أن يبعث الله تعالى إليهم نبيه محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما وقد بعثه الله وأمر أن نتبعه فإن كل ما عدا شريعته ضلال، مهما كان قائله، لو أن العقول تشرع في دين الله، وتشرع في صفات الله، وتشرع في أمور التوحيد، لكان هذا شرك.

ويقول لك أحد العامة: ليس هذا شرك، وهذا ظاهر بالعقل، فأنا لا أعتقد أن غير الله يؤثر، بل التأثير كله لله، لكن هذا واسطة! فنقول: ما هو الدليل؟ هل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرنا أن نتوسل بالأموات وبأصحاب القبور؟ فسيقول: لا يوجد دليل، ولكن هذا واضح بالعقل والفكر، فبذلك رجعنا لقضية اتباع الهوى، واتباع الخرص والظن، وإن سموه عقلاً، فوقعوا في الحيرة، ووقعوا في الضلال.

وكل من خاض في علم الكلام وهذه الأمور الجدلية بغير هدىً من الله، ندم وحار وضل وتخبط، والسعيد منهم والناجي منهم الذي قال عند الموت، كما قال الجويني: لقد ركبت البحر الخضم وخضت فيما نهى عنه علماء الإسلام، وهأنذا أموت على دين عجائز نيسابور، فالويل لـ ابن الجويني إن لم يغفر له الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

فهذا يموت على دين العجائز -يعني الفطرة الأولى- ترك البحر الخضم وما خاض فيه، فكل ما كان مخالفاً لشرع الله عز وجل وإن سميت فلسفات وإن سميت علوماً: علم اجتماع، علم نفس، علم اقتصاد، علم سياسة، القضية ليست قضية العلم، ولا تسمية العلم.

فالسحر تعلمه كفر، هكذا قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:١٠٢] المعلمان هاروت وماروت هما أول من علم الناس السحر، يقولان: هل تريد أن تتعلم السحر؟ يقول: نعم، فيقولون: إنما نحن فتنة فلا تكفر، أي: لو علمناك تكفر.

فالسحر إذاً كفر، ومع ذلك، سماه الله علماً.

إذاً القضية ليست قضية علم فقط، ولكن هل هذا العلم اتباع؟ وهل هو وحي من الله؟ هل هذا العلم مما كان عليه السلف الصالح؟ هذا هو الأساس، وإلا فالعلوم كثيرة، ولكن المعيار هو كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فإذاً يشبه أمة اليهود من هذه الأمة الذين يعرضون عن دين الله، وعن كتاب الله عز وجل على علم.

الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل لنا هذا البيت قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} [البقرة:١٢٥] وجعلنا نقبل هذا الحجر الأسود، وقد شرع ذلك لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومع ذلك يقول عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه-: {والله إني لأعلم أنك حجرٌ لا تضر ولا تنفع؛ ولولا أني رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقبلك ما قبلتك} هذا هو الحجر الأسود، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكرم وأعز على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الحجر الأسود بلا ريب، هل جلس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعل كفه حجراً أسود يقبل ويستلم من غير تشريع الله؟ هل فعل ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ لا! لم يفعله.

فإذا جاء من يحملون الشهادات العلمية، ومن يكتبون المؤلفات الكبيرة، ويجعلون أكفهم كالحجر الأسود يستلم ويقبل، وينحني الإنسان ويقبل ويذهب ويجلس، فهذا ينطبق عليه ما ينطبق على الأمة الغضبية الأمة اليهودية أنها عصت الله على علم، يعلمون أن هذا لم يشرعه الله ولم يأذن به الله، ومع ذلك يفعلونه، يستعبدون المريد الذي يسمونه مريداً من دون الله، ويريدون أن يحولوه إلى شيطانٍ مريد على شرع الله وعلى أمر الله.

حتى قال قائلهم: إذا أمرك الشيخ بأمرٍ فلا تعصه، وكن بين يدي الشيخ كالميت بين يدي الغاسل، هكذا يقول أئمة الصوفية أئمة الضلال، يجب على المريد أن يكون بين يدي الشيخ كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء، حتى لو أمره بفاحشة، قالوا: لأن الشيخ أعلم، ربما يرى أن في صالحه أن يفعل تلك الفاحشة، فيندم ويتوب ويكون أفضل له، وأفضل لحاله نعوذ بالله من الضلال.

فيعلمون أن الله حرم هذا ويأمرون به، ويعلمون أن هذا من البدع ويفعلونه، من أجل المتاع القليل، ومن أجل أن يأكلوا أموال الناس بالباطل كما حكى الله عنهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:٣٤] ومن أجل أن يُعظَّموا بالباطل، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:٣١].

فالأمة الغضبية اتخذت الأحبار، وأمة الضلال اتخذت الرهبان آلهةً من دون الله، قال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:٢٧] ابتدعوا هذه الرهبانية، ولم يتبعوا ما أنزل الله، وإنما ابتدعوا شيئاً ما كتبه الله، ومع ذلك قال تعالى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:٢٧].