للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مناظرة أبي مجلز للخوارج]

فروى الطبري برقم: "١٢٠٢٥" عن عمران بن جدير قال: [[أتى أبا مجلز ناس من بني عمرو بن سدوس، فقالوا: يا أبا مجلز، أرأيت قول الله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:٤٤] أحق هو؟ قال: نعم، قالوا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:٤٥] أحق هو؟ قال: نعم، قالوا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:٤٧] أحق هو؟ قال: نعم، فقالوا: يا أبا مجلز أفيحكم هؤلاء بما أنزل الله؟]].

فإن قال: نعم، قالوا: إن مخالفتهم واضحة، وإنكارها مكابرة، وكفى بـ الحجاج ذنباً من بني أمية وأمثاله، وإن قال لهم: لا يحكمون بما أنزل الله؟ قالوا: إذاً كفار.

وهذه مشكلة يعاني منها كثير من الناس، وإن لم ينسبوا أنفسهم إلى الخوارج، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يحاسب الناس باللافتات التي نسميها الآن في عصرنا الحاضر، فلو أنني قلت: أنا من أهل السنة، وأنا من أهل الأثر، وأهل الاتباع، ومن السلف، فإن الله لا يحاسبني بمجرد هذه الدعوى، ولا يحاسب غيري أنه يُنسب إلى الخوارج الإباضية وهو قد ظُلم في هذه النسبة، وهو فعلاً على السنة، وإنما ظلم في هذه النسبة، أو انتسب وهو لا يدري، كما أن بعض العلماء يقول: أنا أشعري ويقصد: أنا أثبت الصفات، فلا يحاسبه الله على منهج الأشاعرة في نفي الصفات.

فالمقصود أن الحساب عند الله ليس بالانتماءات واللآفتات وإنما بالحقائق، فـ الخوارج الخروج صفة من صفاتهم، وصفات الخوارج يمكن أن توجد في أي مكان وفي أي زمان، وتحت أي لا فتة أو اسم أو شعار، يمكن أن توجد صفة أو شعبة من شعب الخروج، وهذه لأجلها -والله أعلم- جعل العلماء كتب الخوارج والمرتدين والبغاة والمحاربين كتباً من كتب الفقه.

ولو أن الخوارج هم -فقط- الفرقة التاريخية التي خرجت وانقضت لكانت تدرس في كتب التاريخ، أو كتب الملل والنحل فقط، لكن في كتب الفقه أحكام الخوارج لأنها صفة يمكن أن توجد في الناس في أي زمان وفي أي مكان، فصفاتهم التي بيَّنها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أنهم يقاتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان}.

وهذه قاعدة: بأنه مهما كان الشخص يدَّعي الإخلاص، ويدَّعي العلم، واتباع السنة، ويدعي إنكار المنكر والعبادة، فـ الخوارج يقول عنهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وقراءتكم إلى قراءتهم} فهذا الكلام يُخاطب النبي صلى عليه وسلم به الصحابة رضي الله عنهم، ومع ذلك فهذه سيرة وعلامة من أعظم علاماتهم، أن عدواتهم منصرفة إلى أهل الإسلام، ولم يعرف ولم يشهد أن الخوارج جاهدوا الروم، ولا جاهدوا الفرس، ولا قاتلوا أعداء الإسلام، فهذا هو تاريخهم.

وهذه من دلائل نبوة نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فهم يقاتلون المسلمين، ويُكفِّرون علماء الإسلام) ويطعنون في دين علماء الإسلام، ويحاربون أهل السنة ويزعمون أنهم ليسوا أهل السنة إنما هم مرجئة وإنما هم مداهنون، فيأتون لهم بألقاب يلمزونهم وينبزونهم بها.

والشاهد: أن من طريقتهم في الاستدلال أنهم يظنون أن المسألة بهذا الإلزام سهلة، فيقولون: إما أن يقول: إنهم يحكمون بما أنزل الله، فنقول: إذاً هذا مثلهم؛ لأنه لا يكفر الكافرين ويشهد لهم بالإيمان فهو كافر، وإما أن يقول: لا، فنقول: فإذاً هم كفار فلماذا تجادل عنهم؟ هكذا ظنوا المسألة إما كذا وإما كذا.

وهذه أيضاً إحدى صفات الخوارج؛ لأن الأمر قد يحتمل أكثر من وجهة نظر، وقد يكون فيه سعة أو له جواب ثالث وهكذا، فعدم تفصيل المجملات والمبهمات والعمومات مما ضل الناس بسببها، حتى قيل: إن أكثر ضلال الناس واختلافهم هو بسبب المجملات، وعدم تحرير موضع النزاع.

قال أبو مجلز الفقيه العالم: [[هو دينهم الذي يدينون به، وبه يقولون، وإليه يدعون، فإن هم تركوا شيئاً منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنباً]].

قال: الحكم بما أنزل الله بالنسبة للأمراء هؤلاء -بني أمية ومن معهم- هو دينهم الذي يدينون به، ولم يأتوا بقانون آخر، ولم يأتوا بالتوراة ولا الإنجيل ولا قانون الروم أو الفرس، فدينهم الحكم بما أنزل الله، وبه يقولون وإليه يدعون -أي: إلى الكتاب والسنة- فإن هم تركوا شيئاً منه أو قصروا في شيء عرفوا أنهم قد أصابوا ذنباً، وهم مقرون بمخالفتهم فيما خالفوا فيه، وهذا المعيار معيار سليم ودقيق جداً، فلو أنهم جاءوا بشريعة أخرى أو بقانون آخر لكان الحكم مختلفاً.

قال: [[فقالوا: لا والله ولكنك تَفْرَق! -أي: تخاف- قال: أنتم أولى بهذا مني! لا أرى، وإنكم ترون هذا ولا تحرَّجون -أي: أنتم أولى بهذا التفكير، وأنتم لا تتحرجون فيه- ولكنها أنزلت في اليهود والنصارى وأهل الشرك أو نحواً من ذلك]].

فكلام أبي مجلز هنا مثل الذي جاء في حديث البراء من كلامه أو مرفوعاً: {أنها في الكفار} أما أن يكون الحكم بما أنزل الله هو دينه، وبه يقول، وإليه يدعو، وإذا خالفه فإنه يتحرج ويشعر أنه قد خالف أمر الله، فهذا ليس ممن حكم بغير ما أنزل الله.

قال: 'ثم روى الطبري الأثر (١٢٠٢٦) نحو معناه، وإسناداه صحيحان'.