للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حقيقة واقع السؤال والإجابة]

يقول: 'والناظر في هذين الخبرين لا محيص له عن معرفة السائل والمسئول'.

فهو يعرفنا بالنوعين السائل الخوارج، والمسئول الذي هو أبو مجلز، قال: 'فـ أبو مجلز لاحق بن حميد الشيباني السدوسي تابعي ثقة كان يحب علياً رضي الله عنه، وكان قوم أبي مجلز وهم بنو شيبان من شيعة علي يوم الجمل وصفين، فلما كان أمر الحكمين يوم صفين، واعتزلت الخوارج، كان فيمن خرج على علي رضي الله عنه طائفة من بني شيبان وبني سدوس ابن شيبان بن ذهل، وهؤلاء الذين سألوا أبا مجلز ناس من بني عمرو بن سدوس، وهم نفرٌ من الإباضية.

والإباضية من جماعة الخوارج الحرورية '.

وأبو مجلز رحمه الله التابعي الثقة يلتقي في نسبه مع إمام عظيم، هو الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، من نسل قبيلة شيبان بن ذهل التي ينتسب إليها الإمام أحمد، وهم من ربيعة، وهناك عوامل جاهلية جعلت الخوارج يكثرون في ربيعة.

والمأمون له كلمة في هذا، وقد تكون حقاً، يقول: 'أما ربيعة فلم تزل ساخطة على الله منذ أن جعل النبوة في مضر، وما خرج منها اثنان إلا كان أحدهما شارياً'.

أي: من الشراة وهم الخوارج، كان يُقال لهم: الخوارج والشراة والقراء، فـ المأمون عباسي فيتكلم عمن خرجوا على خلافة بني العباس وانضموا إلى غيره، وبالذات هؤلاء الشراة، لأن الخوارج يقولون: الإمامة حق لكل مسلم، قرشياً أو غير قرشي، فيقولون: لماذا يشترط أن يكون قرشياً؟ فيعللها المأمون بقوله: إن ربيعة -التي خرج منها كثير من الخوارج - ساخطة على الله لأنه اختار نبيه من مضر، ولأن الخلافة لا تكون إلا في قريش بالذات.

وبعد ذلك تأتي مسألة الخلاف بين أهل البيت، فالعباسيون يرون أن العم أولى، والعلويون يرون أن ذرية فاطمة أولى إلخ.

لكن المقصود: هو أن العباسيين والأمويين -أي: المنتسبين إلى علي رضي الله تعالى عنه- متفقون جميعاً على أصل، وهو أن الخلافة في قريش، لكن الخوارج -ومنهم هؤلاء الذين ينتسبون إلى ربيعة- يقولون: لا، بل الخلافة في أي مسلم كفء، فـ المأمون يُعلل قولهم هذا.

والمقصود أن هؤلاء الإباضية، جاءوا يسألون أبا مجلز رحمه الله.

قال: 'الإباضية من جماعة الخوارج الحرورية، وهم أصحاب عبد الله بن إباض التميمي، وهم يقولون: بما قالت سائر الخوارج، في التحكيم، وفي تكفير علي رضي الله عنه، إذ حكّم الحكمين' والخوارج، كثير منهم من بني تميم، وبنو تميم من مضر.

والنبي صلى الله عليه وسلم حين جاءته صدقات بني تميم، قال: {هذه صدقات قومنا} فهم أقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم نسباً من ربيعة أو مع ذلك كثير من الخوارج من بني تميم.

ولهذا نقول: إن القضية ليست قضية عنصرية وعصبية، وصحيح أن العنصرية في الجاهلية كان لها دور، لكن ليس كل الخوارج ينطلقون من منطلق العصبية، وإلا لما خرج معهم بعض من قال بقولهم، وهم من مُضر، فكان الأولى أن يتعصبوا لقريش، لكن الضلال لا يعرف العنصرية، نسأل الله العفو العافية.

فإنه إذا أضل الله أبدأ، فقد خرج من بعض أحفاد جعفر الطيار رضي الله تعالى عنه، من أدَّعى النبوة وأفسد في الدين، وهذا في عمر بني أمية، المسألة فالضلال يوجد في كل فخذ وفي كل قبيلة، وفي كل شعب.

قال: 'فهم يقولون- الإباضية - مقالة سائر الخوارج، في التحكيم وفي تكفير علي رضي الله تعالى عنه، إذ حكّم الحكمين، وأن علياً لم يحكم بما أنزل الله في أمر التحكيم'.

وهذه المسألة من المسائل التي ناظروا فيها عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه، وكان مما جادلهم به، أن الله سبحانه وتعالى شرع لنا التحكيم في سورة المائدة: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:٩٥] فكيف بصلح بين طائفتين عظيمتين من المسلمين.

إذاً: ليس التحكيم كفراً كما تزعم الخوارج.

قال: 'ثم إن عبد الله بن إباض، قال: إن من خالف الخوارج كافر ليس بمشرك، فخالف أصحابه، وأقام الخوارج على أن أحكام المشركين تجري على من خالفهم، ثم افترقت الإباضية بعد عبد الله بن إباض الإمام افتراقاً لا ندري معه في أمر هذين الخبرين، من أي الفرق كان هؤلاء السائلون، إذ أن الإباضية كلها تقول: إن دور مخالفيهم دور توحيد، إلا معسكر السلطان، فإنه دار كفر عندهم'.

وهذا مما بقيت في عقائد الإباضية إلى اليوم.

الخوارج ثلاث طبقات -ثلاث درجات في الغلو- أشدهم غلواً الأزارقة ثم النجدات، ثم الإباضية.

فـ الإباضية أخفهم، وليس معنى هذا أنهم على السنة والهدى، لكنهم لا يكفرون كل من خالفهم كما فعل أولئك، لأنهم يقولون: الكفر ينطلق على السلطان وجنده فقط، وأما الرعية فليست كافرة.

ثم قالوا: إن جميع ما افترضه الله سبحانه على خلقه إيمان، وهذا الكلام مما يشنع به المرجئة وأمثالهم على أهل السنة، فيقولون: إنكم على مذهب الخوارج.

فنحن نعتقد -أيضاً- أن كل شعب الإيمان إيمان، فالصلاة إيمان، والزكاة إيمان، والصوم إيمان حتى إماطة الأذى عن الطريق إيمان.

وفي هذا القول الخوارج يوافقون فيه أهل السنة، لكن قالوا: من ترك شيئاً من الواجبات كفر، وأهل السنة قالوا: من ترك شيئاً من شعب الإيمان عصى أو نقص إيمانه، إلا من ترك أعلى الشعب، التي هي شهادة أن لا إله إلا الله ولوازمها، أو ترك أحد الأركان عامداً إلخ، مما يكفر به الإنسان، فهنا الفرق.

فنحن نقول: إن قولهم بأن كل شعبة من شعب الإيمان -أو كل ما أمر الله به- هي إيمان، هذا القول حق، لكن رتبت عليه الخوارج أن من لم يفعله ولم يأت بهذا الواجب فهو كافر، وهذا عند النجدات، وعند الأزارقة، أما الإباضية فقالوا: نحن نخفف قليلاً، فنقول: هو كافر، لكن كفر النعمة، وليس كفراً ينقل عن الملة، فقالوا: فهو كفر نعمة لا كفر الشرك، وأن مرتكبي الكبائر في النار خالدون مخلدون فيها، فهذه هي عقيدة الإباضية، وهم موجودون اليوم في عُمان والجزائر وفي غيرها.

وفي كتبهم أن من قال: إن الله تعالى يرى في الآخرة، فهو عندهم كافر خالد مخلد في النار، وصاحب الكبيرة عندهم -أيضاً- كافر خالد مخلد في النار، فهذا دينهم إلى اليوم.

فيقول الشيخ محمود: 'ومن البيّن أن الذين سألوا أبا مجلز من الإباضية، إنما كانوا يريدون أن يلزموه الحجة في تكفير الأمراء؛ لأنهم في معسكر السلطان -معسكر الخلافة- ولأنهم ربما عصوا وارتكبوا بعض ما نهاهم الله عن ارتكابه.

ولذلك قال لهم في الخبر الأول: فإن هم تركوا شيئاً منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنباً'.

يقول: إنهم تقع منهم معاصي لكن يعلمون أنها معاصي.

'وقال لهم في الخبر الثاني: إنهم يعملون بما يعملون ويعلمون أنها ذنب'.

أي: ويعتقدون، وليس المقصود هو مجرد المعرفة بل المعرفة، فشخص يفعل ذنب، ويقول: أنا أعرف أنه ذنب، فهذا لا يكفي إلا إذا اعتقد أنه ذنب، وأنه حرام فلا يكفر، إما لو استحله، واعتقد أنه حلال، مع معرفته أنه حرام، فإنه يكون كافراً.

إذاً: قد يجتمع الاستحلال مع المعرفة، فيقول: أعرف أنه حرام، لكن يستحله، فليس المقصود بالعلم مجرد المعرفة، لكن المقصود بالعلم هو الاعتقاد، أي: يعتقدون أنه حرام، فكيف نكفرهم؟!