للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[توضيح لواقع هذه القوانين]

يقول: 'والذي نحن فيه اليوم هو هجر لأحكام الله عامة بلا استثناء، وإيثار أحكام غير حكمه في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتعطيل لكل ما في شريعة الله'.

وقول الشيخ محمود: بلا استثناء صحيح من جهة، فإن عندهم قانون الأحوال الشخصية وفق الشريعة، وبعض الدول زيد قليلاً في باب المعاملات، فنقول: لا يعتبر شيء من ذلك أنه إقامة لحكم الله، حتى قانون الأحوال الشخصية لا يعتبر أنه إقامة لحكم الله، لأن القوم الذين يطبقون قانون الأحوال الشخصية، لا يطبقونه على أنه منزل من عند الله، ولا يقولون: نحن ملزمون به ولو خالفناه لأثمنا، ولوقعنا في الإثم والحرج، وأنه لا تصلح حياة المخلوقين والعباد إلا بهذا الشرع الذي أنزله الله، فهم لا يعتقدون ذلك، إنما هذا جانب من جوانب الحياة، وضعوا له تشريعات كما وضعوا للاقتصاد وللسياسة وللاجتماع، وللأحوال الجزائية، فوضعوا محاكم تجارية، وعمالية، وإدارية، وكل شيء وضعوا لها قوانين، فبقي هذا الجانب، فقالوا: هذا الجانب نأخذه من الشريعة، نقتبس -مثل ما ذكرنا- من الإمامية، والزيدية، والإباضية، والحنابلة والشافعية، فنركب شيئاً على شيء حتى نكمل جانباً من جوانب الحياة.

لكن هذا الجانب لم يجعلوه كلياً بعيداً عن الدين؛ لأنه من الصعب على الناس أن تقول لهم: اذهبوا افعلوا عقد الزواج في البلدية، وهذا قد حصل، وقد فعله المجرم الخبيث كمال أتاتورك، وقال: الدين يلغى نهائياً، ولا يفعل عقد زواج عند مأذون أو شيخ، بل في البلدية، فهناك موظف مدني يكتب العقد، مثل أي عقد آخر، فألغى المسألة تماماً، لكن في هذه المسألة وجدوا أن في تركيا نفسها لم يقبل الناس ذلك.

لأن هذه أشياء شخصية للغاية لو أخرجناها من عند الناس، فإن الناس لا يقبلون بهذا، فهم جاءوا بالشريعة الإسلامية حتى يكملوا القانون الوضعي، فهم يريدون أن يجعلوا القانون أبواباً متكاملة، وبقي لهم باباً اسمه: الأحوال الشخصية، قالوا: نكمله من الشريعة، فأخذو ما يعجبهم من الشريعة، وخلطوه بغيره وكمَّلوا الباقي، فهذا شيء.

والشيء الآخر: أنه إنما يأخذ شرعيته عندهم من إصدار الدولة له واعتباره قانوناً.

فمثلاً: شخص درس أحكام الطلاق، وخرج من دراسته بنتائج ونشر الكتاب، فمن يقرؤه من المسلمين يجد الدليل واضحاً فيه على مسألة من مسائل الطلاق، فالواجب عليه أن يتبعه ويعمل به رأساً، فإذا قرأ قاضي من القضاة هذا البحث، ورأى أن هذا الحكم أحسن من الحكم الذي كان يحكم به على المذهب، فإنه يطبق الحكم مباشرة، وهذا هو الواجب وهو الحق؛ لأن وظيفة العلماء هي الكشف عن حكم الله، وتبيين أن هذا هو حكم الله، أما الإلزام به فإنه من الله، فيلتزمه الناس؛ لأنه من عند الله.

فالعالم يكشف عن أدلة حكم الله ويبينه، ثم ينتهي دوره، وبعد ذلك يجب على الأمة أن تعمل به -القاضي والحاكم والأمير والصغير والكبير- لكن في القانون الوضعي لو افترضنا أن شخصاً وضع مسودة للأحوال الشخصية، وضبط كل شيء فيها، ورتب فيها الأحكام الشرعية، مادة كذا ومادة كذا، وهذا حتى لا يقولون: أنتم عندكم أحكام وأبواب الفقه غير مرتبطة هكذا يظنون.

فهذا شخص قال: أنا أضع لكم الأحكام الشرعية على الطريقة القانونية، مادة وراء مادة، ثم نشره بين الناس، فإذا جاء شخص يعمل في المحكمة القانونية، وعمل به، وقال: إني عملت بمشروع الأحوال الشخصية المقدم من فلان، فإنهم يضحكون عليه، ويقولون: إنه مجنون، لأن هذا المشروع لم يعتمده وزير العدل ولم يقره رئيس الجمهورية، لأن الإلزام عندهم ليس من كونك أبنت عن الحق، وأتيت بأدلة أرجح، بل الإلزام عندهم من السلطة، ولهذا فهم يفرقون بين القانون وبين المبادئ الأخلاقية، فالقانون عندهم لا بد أن يكون من السلطة، وأن يكون ملزماً به، وإلا أصبح توجيهات أخلاقية.

ولهذا لا تجد في القانون شيئاً اسمه مستحب، حتى في نظام المرور ونضرب لذلك -مثالاً- في القانون لا شيء اسمه مستحب للسائق، فإذا وقف فإما أن يعاقب أو ليس عليه شيء، وهذه من الفروق الكبيرة جداً بين شرع الله وبين أنظمة البشر، حتى ولو كانت من تنظيم الأمور الجائز، فنظام المرور، فلا نقول فيه شيئاً، إذا لم يخالف الشرع، فأنت تنظم أمور الناس به، لكن في الإسلام أنت عندك أمور: مثلاً: لو تركت الأفضلية في المرور للكافر فإنك تأثم، ولو كان الذي يمر أمامك عاجز أو ضعيف أو أكبر منك أو فأعطيته فرصة للمرور، فهنا قول: هذا مستحب، وربما قد يجب فأنت في كل أحوالك تتعبد الله سبحانه وتعالى، وتشعر أنك إما مرتكب لمحرم، أو تارك لواجب، أو أنك مسدد ومقارب، وهذا الشعور حسن.

أما عندهم، فإما أن يستحق العقوبة فهذا قانون، أو ليس عليه عقوبة فهذا يسمى توجيهات أخلاقية، ولا تُذكر في القانون، ولا يتعرضون لها، وممكن عندهم أن يكتب عنها صحفي في الجريدة، ولهذا عندهم الصحافة وهم أصحاب الجلالة الرابعة، فهي تُكمل الجوانب التي لم يأتِ بها القانون، فتقول للناس: لماذا تفعلوا كذا، ولو كنا نفعل كذا، ومن سمات المواطن الصالح أنه يفعل كذا، ويترجَّون الناس، ولا يوجد عندهم شيء اسمه: مستحب، أو مندوب إليه وتأجر عليه، بل القضية عندهم هي أن هذا مواطن أحسن خلقاً من الآخر، وهذا أفضل مواطنة من الآخر، فهذه هي القضية عندهم.

فمن هنا كان الفرق كبيراً جداً بين ما شرعه الله وما فيه الرحمة، والعدل للعالمين أجمعين، والخير واليسر والبركة وبين تشريعات هؤلاء.

فالآن عندما يقول الشيخ: "بلا استثناء"، فإن كلامه صحيح من جهتين، لأن هذا التشريع الذي هو من الذين لم يقم لأنه من عند الله، ولم يستمد الإلزام -أيضاً- من كونه من عند الله، وإنما لأن السلطة ألزمت به وانتقت واختارت بعض الأشياء من الشريعة، وممكن تغيرها في أي لحظة وتلغيها إذا أرادت، وتضع غيرها.