للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الفرق بين الشورى والديمقراطية]

فلا يمكن أن تستقيم الأمور على أهواء الناس أبداً، ولذلك لو نظرت إلى حقيقة ما يسمى بـ الديمقراطية، هل هي فعلاً حكم الشعب للشعب؟! أي: أن الشعب يحكم نفسه فعلاً، وهل حكم الشعب نفسه بنفسه في التاريخ كله؟! ولذلك تجد أن أهل القرى في المجتمعات اليونانية الصغيرة، وفي حكومات الكوميوند، أو جزء من ذلك في إيطاليا كانوا يجتمعون ثلاثين أو أربعين يتشاورون ويحكمون أنفسهم، هذا في كتب علم السياسة، وما يسمونه بالفقه السياسي إلخ يقولون فيها: لم يوجد حكم ديمقراطي حقيقي مباشر إلا في القرى الإغريقية القديمة، أما ماعدا ذلك فلا.

قلت: فالفردية التي عدد أفرادها ثلاثين شخصاً، أي: الكبار منهم من يحق له الانتخاب، هل فعلاً حكموا أنفسهم بأنفسهم، أم أنه لابد من شيخ في القرية، إذا تحرك التف حوله عشرون نفراً، وخفضوا رءوسهم وسكتوا.

حتى القرية الصغيرة الحاكم فيها ثلاثة أو أربعة وجهاء من الناس، ولا يستطيع أحد من الناس أن يرفض، وذلك لأنهم يخافون من البطش، إذاً فهي إما قوة جسدية أو قوة مالية أو قوة منصب، حتى الحكم المباشر الذي يضربون له مثال بالثلاثين والخمسين لا يوجد أبداً، ففي النهاية الذي يحكم هو صاحب الهوى، حيث يشغل قوته في هواه كما يشاء، فكيف إذا ما صارت الأمة بالملايين، وقالوا: لابد من ممثلين ينتخبهم الشعب، ويرضاهم ودخلت المتاهات.

كما ترون في أمريكا أن الناس حزبين فقط: ديمقراطي وجمهوري، لاخيار غيرهما، حتى وصل بهم الأمر في بعض الولايات إلى أنه لابد أن تتوارث الحزبية، أي: أن الأب ديمقراطي والابن ديمقراطي والحفيد ديمقراطي إلى يوم القيامة، ولهذا تجدون أناساً كثيرون لايصوتون ثم يذهبون إلى دول أخرى، ويقولون: إن القضية ليست قضية حزبين وهكذا الضلال.

ففي إيطاليا قبل فترة من الزمن لما تغيرت الحكومة الأخيرة، ذكروا أنه ما يقارب من خمسين حكومة تشكلت منذ الحرب العالمية الثانية -أي: تقريباً خمسين سنة- فأحياناً كل ستة أشهر في إيطاليا وفي غيرها تتشكل حكومة جديدة ووزراء جدد، فالوزير الذي يعلم أنه لن يحكم إلا ستة أشهر، ماذا تريد أن يعمل بالأموال؟ لكن لو كان أمامه عشرون سنة فسيجمع قليلاً قليلاً، فالناس هناك في لعب وضلال وتخبط، أهذه هي القدوة التي يريدون أن نترك كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أجلها؟! والشورى التي أنزلها الله وأمر بها، وعمل بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله: 'لا أعرف أحداً أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ'.

وقد وردت في حديث لكن في سنده انقطاع؛ لكنه من حيث الحقيقة فهذا ثابت كما قرره شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله، فلم يكن أحد من الولاة أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم الخلفاء الراشدين من بعده: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:٣٨]، فهم يتشاورون في الأمر العظيم، فإذا جاءهم عن الله أو عن رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نص، قالوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:٢٨٥].

ومن القصص العجيبة في هذا: قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عندما ذهب إلى بلاد الشام فجاءه الأجناد والأمراء، والحديث في صحيح مسلم مفصلاً، وله أصل في البخاري وغيره، وفيها أنه جلس فقال له الأمراء: إن الوباء -وهو الطاعون- قد نزل في بلاد الشام فما الرأي؟ وعمر رضي الله عنه ليس كأي أحد، إنما هو محدث ملهم ألقى الله الحق على قلبه ولسانه، ومع ذلك لم يستبد برأيه، بل قال: عليّ بالمهاجرين، فاجتمعوا واختلفوا، فقال: عليّ بمشيخة الأنصار، فاختلفوا كلٌّ له رأي، من يقول: نقدم، ومن يقول: نرحل، فتردد في الأمر، وفي الأخير عزم على أن يرحل، وقال: الغداة الرحيل، فجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وكان غائباً لبعض أموره، ولم يكن حاضراً للشورى، فقال: عندي في هذا علم، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {إذا نزل الوباء وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها، وإذا لم تكونوا فيها فلا تدخلوها -أو فلا تقدموا إليها} فقال عمر: الحمد لله، ولو كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه موجوداً فأخبر بهذا الحديث أول ماجاءه الخبر، لما احتاج أن يشاور أحداً أبداً.

وفي هذا الحديث فائدتان عظيمتان: الأولى: أهمية الشورى، وألاَّ يستبد الحاكم برأيه.

والأخرى: أنه إذا جاء نص صريح فلا تشاور، أما مسائل الاجتهاد وموارد الاختلاف فالأمر فيها آخر، فالقضية ليست قضية ديمقراطية: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة:٤٩].