للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نشأة دولة التتار]

ونرجع إلى كلام المقريزي حيث يقول: 'وليس ما يقوله أهل زماننا في شيء من هذا -أي ما يستخدمه أهل زمانه وهو الياسق أو الياسة ليس هو المقصود به السياسة بمعناها اللغوي- وإنما هي كلمة مغولية -المغول هم التتار- أصلها ياسة، فحرفها أهل مصر وزادوا في أولها سيناً، فقالوا: سياسة، وأدخلوا عليها الألف واللام فظن من لا علم عنده أنها كلمة عربية! وما الأمر فيها إلا ما قلت'.

وهذا هو رأيه، أي: هو كان يتكلم عن مصر، وكانت مصر قاعدة العالم الإسلامي في زمن المماليك.

ثم قال: 'واسمع الآن كيف نشأت هذه الكلمة حتى انتشرت بـ مصر والشام: وذلك أن جنكيز خان القائم بدولة التتر في بلاد المشرق، لما غلب الملك أورنك خان وصارت له دولة، قرر قواعد وعقوبات أثبتها في كتاب سماه: ياسة، ومن الناس من يسميه: يسق، والأصل اسمه: ياسة، ولما تم وضعه، كتب ذلك نقشاً في صفائح الفولاذ -فهذا خبيث، فمن اهتمامه بها أتى بصفائح، من الفولاذ ونقش فيها هذا القانون، وحفرها في الحديد- وجعله شريعة لقومه، فالتزموه بعده، حتى قطع الله دابرهم -فـ المقريزي يتكلم عن أمة قد قضت وانتهت- وكان جنكيز خان لا يتدين بشيء من أديان أهل الأرض، فصار الياسة حكماً بتاً في أعقابه، لا يخرجون عن شيء من حكمه'.

وأصبح قانوناً ملتزماً به لا يخرجون عن كلامه، وجنكيز خان بنفسه لم يأتِ للعالم الإسلامي، ولكنه مات ثم الذي اجتاح بغداد أولاده وأحفاده، لأن الحرب استمرت أولاً مع دولة خوارزم شاه -الدولة الخوارزمية في المشرق- وقاومهم السلطان جلال الدين في أكثر من خمسين معركة، وفي النهاية غلبوه، واجتاحوا بلاد المشرق، وهذا أيضاً بسبب ظلم المسلمين، لأن جلال الدين كان من السلاطين الظلمة، فكان يغزوا بلاد الفرس وينهب أموالهم، وإذ قيل له: لماذا تنهب المسلمين؟ قال: حتى أستعين بها على قتال التتار، فكان ظالماً.

وهكذا فإن الظالم يعاقب، والأمة المسلمة تعاقب على ظلمها بتسليط أعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليها، فالذي اجتاح بغداد هو حفيده هولاكو الذي وصل إلى بغداد، ثم بعد ذلك وصلت طلائعهم إلى بلاد الشام، وكانت معركة عين جالوت مع قسم من أقسامهم، وبعد عين جالوت انحسر شأن التتار، الذين جاءوا على شركهم، وخرجوا من بلادهم وهم على دينهم الأصلي، إلا أن هولاكو كانت زوجته النصرانية، ويقال: إنه تنصر، لكن التتار كأمة بقيت على دينها القديم: الوثنية، ثم غزاهم الإسلام ودخل قلوبهم شيئاً فشيئاً لما استقروا في بلاد الإسلام وأظهروا الإسلام، حتى كان سلطانهم قازان في أيام شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية -وأول ما أتى التتار كان شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله ما يزال حدثاً طفلاً، ثم لما أصبح شيخ الأمة كان الملك في أيامه قازان - قد أظهر الإسلام، ويقول: إنهم مسلمون، كما في الفتوى المشهورة، فتوى شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله في التتار، ولكن أي إسلام؟ فإن الذي يدخل الإسلام في أي زمان ومكان يدخل في الإسلام بحسب ما عليه أهل ذلك الزمان.