للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الدعوة إلى الله بالموعظة الحسنة]

ثم الصنف الثاني: وهو من وقع في الغفلة؛ إما غفلة أصلية لازمة كغفلة المنافقين، فيكون غافلاً عن ذكر الله لا يريد الله ولا رسوله ولا الدار الآخرة؛ وإما غفلة تعرض للمؤمنين بسبب الشهوات، ونتيجة لحب الدنيا، ونتيجة لإغواء الشيطان.

فعلاج هذا النوع الذي تعتريه الغفلة هو: الموعظة الحسنة، قال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:١٢٥]، فمثلاً رجل فاتح دكانه والصلاة تقام؛ فتقول له: يا أخي جزاك الله خيراً الصلاة! فهو يسمع جزاك الله خيراً ويتذكر، كما قال تعالى: {تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:٢٠١] فهو إنسان يحب الخير ويحب الحق ويرغب فيه؛ لكنه في غفلة عنه؛ فليس هو جاهلاً لكنه غافل.

ونلاحظ أن الموعظة قيدت بالحسنة، أما الحكمة فلم تقيد؛ لأنه إذا كان التصرف غير سليم فليس من الحكمة أصلاً.

لكن المواعظ نوعان: موعظة حسنة، وموعظة غير حسنة؛ فقد تقف وتقول: قال الله وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ولكن هذا الكلام في غير موضعه الصحيح، فتكون موعظة ولكنها ليست حسنة، وليست هي المنهج أو الأسلوب الذي أمر الله تبارك وتعالى به.

إذاً: لا بد من الحكمة مع من يستحق الحكمة، ولا بد للغافل من الموعظة، حتى أن الله قال في حق المنافقين: {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} [النساء:٦٣] وهذا من الموعظة التي يكون لها وقع وتأثير في النفوس، حتى تنزجر، لأنها نفوس مريضة أو ضعيفة الإيمان، وكما هو معلوم كان المنافقون منهم من هو صريح في الكفر المحض، ومنهم من كان مريضاً يتردد بين الكفر والإيمان، ومنهم من كان غافلاً أو ضعيف الإيمان؛ فهؤلاء تجدي وتنفع معهم الموعظة الحسنة والأسلوب الحسن، وهنا لا بد أن نقف عند قضية الحكمة والموعظة الحسنة.

فكثيراً ما يساء فهم معنى الحكمة في الدعوة إلى الله؛ ولهذا تخبط الناس فأخذ بعض الناس بشق، وأخذ آخرون بشق آخر، فتفرقوا وفرقوا أمر الدعوة، وكانوا شيعاً.

فالحكمة لا بد فيها من تحقق المصلحة وانتفاء المفسدة، والمصلحة قد تتحقق بالرفق واللين، فقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غايةً في الرفق والرحمة واللين؛ حتى إنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وكان يأمر أصحابه بذلك ويقول: {يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا}.

ولكن هنالك في الجانب الآخر مصلحة لا تتحقق إلا بالحزم والقوة والشدة، ومن أجل ذلك جعل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أساليب الدعوة إلى الله الضرب، فقال: {مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر}.

وبعض الناس يقول: (يا أخي الدعوة بالحكمة، والحكمة ألَّا تضربه).

فإلى متى اللين؟ لا يمكن أن تُرَّبيه ثلاث سنوات بالدعوة وجانب اللين، ثم لا يصلي!! فهذا يكون ممن يستحق الضرب، ثلاث سنوات وهو لا يسمع الكلام، ثم لا يستحق الضرب بعدها! وخاصة أنها سن التوجيه لدى الطفل؛ فإذا لم يتوجه في ثلاث سنوات، إذاً فنفسه عاتية، ولا بد أن تزجر وأن يستأصل دافع الشر منها.

ولا ينسى الإنسان جانب اللين والرفق والموعظة نهائياً، حتى يكبر الابن، ثم يأتي يضربه مباشرةً؛ فهنا يكون الخطأ، وليس الخطأ أنه استخدم الضرب، فالضرب أسلوب أقره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمر به؛ ولكن الخطأ أنه استخدم جانباً فقط من جوانب الأسلوب الحسن، ومن جوانب الحكمة، فبعض الناس إذا ضُرب يصلي، وبعض الناس إذا أُمر وذُكِّر صلَّى؛ لأن بعض الناس يكفيه جانب من الحق؛ ولكن ليس كل الناس هكذا؛ فبعض الناس لا بد له من الأمرين معاً (الموعظة والتوجيه)، فإذا لم ينزجر (فالضرب).

فإنسان تقول له: الصلاة! فقد أذن المؤذن، فتعال إلى الصلاة، فيستجيب لك، فهذا ينبغي أن تكون معه رفيقاً رقيقاً.

أما الذي تكون المرة الثانية، والثالثة، والعاشرة، وأنت تدعوه وتنصحه، والرجل لا يبالي لا بأذان ولا بإقامة، ولا بصلاة حينئذٍ: إذا اتخذت معه الشدة، فمن الخطأ أن يقال عنك: هذا ليس عنده حكمة.

فكل إنسان يعرف أن الصلاة واجبة، وهذا الرجل يسمع المؤذن يؤذن، والمسجد يمتلئ، وجيرانه يغلقون محلاتهم، فإذا جاء أحدٌ لينصحه قيل له: أين الرفق؟ وأين أسلوب الدعوة الصحيح؟.

لا.

هذا خطأ، فالدعوة الصحيحة والحكمة أن هذا لا بد أن يردع، وليس فقط مجرد التعهد، هذا أضعف مما شرعه الله فليس هناك (بعد التوحيد) أعظم من الصلاة؛ فإذا استهين بها بهذا الشكل المجاهر؛ فأسلوب الدعوة والحكمة في الدعوة هو أن يردع ردعاً زاجراً يرتدع به كل من سمع ذلك.

فكل إنسان مثل هذا، إذا أراد أن تشرح له وتبين له، فالعشرات من الناس سيكونون هكذا.

فلو أن كل واحد يفتح محله يريدك أن تلقي له محاضرة عن أهمية الصلاة؛ فليس هذا من الحكمة.

وكذلك الزوجة، قال تعالى: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:٣٤] فإن هذا من الحكمة وهو مما أنزل الله.

إذاً لابد أن نعرف أن الحكمة هي تحقيق المصلحة والتزكية والتربية بغاية القوة مع غاية الرحمة.

وهذه هي ميزتنا، فالجهاد في سبيل الله في غاية القوة، وقوة الأمة في الجهاد، وأشجع من حارب هو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه؛ لكنهم كانوا أرحم الناس.

فكان يعلمهم ويقول: {لا تقتلوا المرأة، ولا الرجل الكبير، ولا الصغير، ولا أصحاب الصوامع ولا تحرقوا نخلاً، ولا تمثلوا} فكانوا في غاية القوة مع غاية الرحمة، إذاً فليست الدعوة مجرد جانب واحد؛ بل لا بد من الجانبين، وإن أنتجت الدعوة نتيجة استخدام جانب واحد؛ فهو لأنه جانب من الحق، وليس لأنه الحق كله، فبعضهم يقول: أنا جرَّبت فوجدت أن أسلوب اللين ممتاز؛ فقد استجاب لي عدد كبير فنقول له: هذا لأنك على جانب من الحق.

والثاني يقول: لا أريد إلا القوة، فإذا قلت لأحدهم: هذا حرام وهذا شرك، خاف واتبع الحق فنقول له أيضاً: لأن هذا جانب من الحق، فأصبت أنت في هذا الجانب، وذاك في ذاك الجانب، لكن لو جمعتما الجانبين، لكانت النتائج أكبر وأعظم.

ولهذا إذا نظرت إلى من خالفك، وإلى من نفر بسبب أسلوبك، أو نظرت إلى من لم يأت ويتبعك، لأنك لم تنتهج المنهج الذي أمر الله به، والذي كان عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فسترى أن الفارق كبير بين استخدام جانب واحد من الحكمة، وبين استخدام الجانبين.