للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأصول الثلاثة المندرجة تحت الرضا]

إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فإن هذا الموضوع الأخير من سلسلة مواضيع أعمال القلوب التي بدأناها هو الرضا -نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن يختم أعمالنا وأعمارنا برضاه وأن يتقبلنا عنده في الفائزين المتقين، إنه سميع مجيب.

الرضا: وإن كان الحديث عنه قليلاً، لكنه عمل قلبي عظيم، وهو الذي يندرج فيه شرطي القبول، والانقياد، وهما من شروط كلمة التوحيد، التي لا بد لتحققها من شروط؛ لأنها لو كانت مجرد كلمة أو مجرد لفظ يقال باللسان، لكان كل من قالها في زمن رسول الله -حتى المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار- من أهل النجاة والفوز عند الله تبارك وتعالى، ولكن لها شروط عظام، وقيود ثقال، منها ما سبق ذكره من المحبة، واليقين، والإخلاص، وما سنتناوله في هذه السلسلة -وهو الرضا الذي يجمع بين الانقياد، والقبول، أو الإذعان والتسليم، بأنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا كان الرضا بهذه المثابة، كان هو أساس الدين، وقاعدة الإيمان كما قال ابن القيم رحمه الله.

الأصول الثلاثة: ١ - معرفة الله.

٢ - معرفة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

٣ - معرفة دين الإسلام.

كلها تندرج تحت الرضا، ولذلك يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه سلم رسولاً} وقال في الحديث الآخر: {من قال حين يسمع النداء -الأذان-: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً غُفرت له ذنوبه} وجاء في رواية أخرى، من قال حين يمسي أو يصبح: {رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً، دخل الجنة}.

فانظروا إلى قيمة الرضا، فقد اشتمل على الأصول الثلاثة جميعاً، وإذا كان المؤمن لا بد أن يرضى بهذه الأصول الثلاثة التي لا شيء من أمور الدين يخرج عنها -وهذا يدل على أهمية الرضا- فلابد أن يعلم حقيقة الرضا، ودرجات الرضا، وأن يتجنب ما هو ضد الرضا.

ضد الرضا هو: الاعتراض، أو الممانعة، أو المنازعة فيما جاء عن الله وعن رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا كان أصل الدين وأساسه، وقاعدته، هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، التي هي التوحيد بأنواعه الثلاثة " توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات" فإن الرضا يشمل هذه الأنواع الثلاثة، ويشتمل على الفروع والأحكام أيضاً.

ولذلك نجد أن الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- وهو من خير من كتب في موضوع الرضا، في كتابه النفيس القيم مدارج السالكين اشتق واستخرج هذه الثلاثة الأقسام للرضا، التي هي أقسام التوحيد من هذه الآية: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:١١٣] وسورة الأنعام هي سورة التوحيد العظمى، فهذه السورة من أولها إلى آخرها توحيد، حتى ما ذكر فيها من تشريع، فهو مرتبط أساساً بقضية التوحيد، وإفراد الله تبارك وتعالى.

ومن ذلك أن الله تبارك وتعالى قال: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:١٦٤].

وهذا في آخرها، وهو دليل على توحيد الربوبية، لأنه قال {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً} [الأنعام:١٦٤] وهو النوع الأول من أنواع التوحيد، فلا بد للعبد أن يرضى بربوبية الله تبارك وتعالى معتقداً أن الله تبارك وتعالى هو الخالق، والرازق، والمحي، والمميت، والذي يدبر الأمر، ويصرِّف هذا الكون، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، ويغني من يشاء، ويفقر من يشاء، وهو الذي بيده ملكوت كل شيء، ولا يملك أحداً غير الله تبارك وتعالى التصرف في مثقال ذرة في هذا الكون، إلا بإذن الله وقدره وتدبير منه تبارك وتعالى، فهذا هو الرضا بالله تعالى رباً.

وأما توحيد الألوهية: وهو الرضا بالله تبارك وتعالى إلهاً ومعبوداً، وولياً، فقد جاء في قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [الأنعام:١٤]، والولي: المقصود به الإله المعبود المحبوب، لأن أصل العبادة- كما بينا في موضوع المحبة - هي المحبة وهي التأله والوله وتعلق القلب، ومن تعلق قلبه بشيءٍ فقد عبده، والذي يستحق أن تتعلق به القلوب، وأن تعظمه، وأن تؤلهه، هو الله تبارك وتعالى.

والولاية المقصود بها هنا العبادة، والتأله والتقرب إلى الله تبارك وتعالى، والتي من لوازمها، الموالاة في الله، والمعاداة في الله، وهي أن يحب الإنسان المرء لا يحبه إلا لله، وأن يبغض المرء لا يبغضه إلا لله، فيكون قلبه ولاءً وعداءً وحباً وكرهاًَ في الله، ومن أجل الله تبارك وتعالى فهذا من لوازم الولاية.