للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حديث قاتل المائة نفس]

والدليل الآخر هو الرجل قاتل المائة، أول الأمر قتل تسعة وتسعين.

فذهب إلى العابد، وهذا من الأحاديث التي يستدل بها على كثرة ما فيها من الحكم والدلالات، من أعظم دلالاته وحكمه وعبره: فضل العالم على العابد، أي: العابد المجرد عن العلم.

ذهب إلى هذا الراهب العابد المنقطع وقال له: إني رجل قتلت تسعة وتسعين نفساً، فهل لي من توبة؟ فاستعظم الراهب ذلك وقال: لا أجد لك توبة.

هذا من قلة العلم، ومن قلة الحكمة والفطنة كما ذكر العلماء فهذا الراهب، ليس عنده بصيرة أو فطنة في الدعوة، فهذا السائل قاتل، فإذا قلت: لا أجد لك توبة، كيف تأمنه على نفسك وعلى غيرك من الناس؟ فكان على هذا العابد أن يقول له: تُبْ واستقِم، ويقول: كُف عن كذا وكذا، ثم إن لم يكن له عند الله توبة فهذا بينه وبين الله؛ لكن على الأقل يكون لديك من الحكمة ما تدفع به شره في هذه الحياة الدنيا.

قال الراهب: لا أجد لك توبة.

فأكمل به المائة، ما دام ليس هناك توبة، فسواء قتل هذا أو قتل معه ألفاً أو ألفين فالأمر لا يتغير، فأكمل به المائة.

وبعد ذلك ذهب إلى العالم فأرشده أن له توبة، وأرشده أن يذهب إلى القرية الصالحة ليعبد الله تبارك وتعالى فيها.

ثم كان ما تعلمون عندما قبضه الله تبارك وتعالى، واختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، وهذا أيضاً فيه دليل على أن الملائكة تجتهد في أمر الله تبارك وتعالى، كما نجتهد نحن بني آدم، نحن نسمع من كلام الله آية أو من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فنجتهد في العمل به، وقد نخطئ وقد نصيب، فملائكة الرحمة أخذوا ينفذون أمر الله تعالى فقالوا: رجل تائب مقبل على الله كيف ندعه لكم؟ وملائكة العذاب تقول: وأي توبة حصلت؟ رجل قتل مائة نفس وذهب إلى قرية.

ما رأوا شيئاً قد تحقق، فهؤلاء ينظرون لها من جهة، وهؤلاء ينظرون لها من جهة، فحكم الله تبارك وتعالى بين الفريقين وهو الحكيم العليم: أن انظروا إلى أي القريتين كان أقرب فألحقوه بأهلها، وجاء في بعض الرويات: أن من رحمة الله سبحانه وتعالى أنه أمر هذه أن تتباعد، وأمر هذه أن تنقبض، فقاسوا فوجدوه إلى أرض التوبة أقرب، فغفر الله تبارك وتعالى له، وتولته ملائكة الرحمة.

إذاً: هذا الرجل أسرف على نفسه، وهل بعد القتل من جُرم؟ عندما نتعرض لموضوع التوبة إن شاء الله فسنذكر مسألة قبول توبة القاتل، والخلاف الذي بين علماء أهل السنة والجماعة فيها؛ لأنه ذنب عظيم، لكن اقترن به الخوف، أليس الذي دفعه أن يبحث عن الراهب ويسأله، ثم عن العالم ويسأله، أليس هو الخوف من الله؟ إذاً: هذا فعل كبائر؛ لكن اقترن بها الخوف من الله سبحانه وتعالى، والتفكير في التوبة، والبحث عن مخرج، والحياء من الله، ومهابة لقاء الله، هذه إذا اقترنت بأي ذنب من الذنوب تحرقه بإذن الله، فلما اقترنت بحال هذا الرجل كانت نهايته وكانت عاقبته كذلك.