للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قصة سلامة القس]

والقصة الأخرى قصة سلامة القس، هذا رجل من شيوخ القراء، كان اسمه عبد الرحمن، وكان يلقب بالقس، أو القسيس، كما أن أبا عامر العابد قيل له: أبو عامر الراهب، أو كما يقال: الحبر، يعني ألفاظ أو أوصاف أهل الكتاب، الحبر والراهب وأمثاله قد تطلق على من يقابلهم من هذه الأمة، فالرجل لشدة عبادته كان يلقب بذلك، فكان عبد الرحمن القارئ عند أهل مكة من أفضلهم عبادة وأظهرهم تبتلاً، فمر يوماً بـ سلامة انظروا‍إلى الغناء يا إخوان! يقال لك: ماذا في الغناء؟ ليس فيه شيء، المفتري على الله ورسوله الأسبوع الماضي يقول: الغناء حلال، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يسمعه، يفترون على الله ولا يبالون، الغناء هذا الذي قال فيه ابن الجوزي رحمه الله في تلبيس إبليس: الغناء الذي أباحه بعض السلف غير الغناء في زماننا هذا، هذا ابن الجوزي يقول: عندنا الآن الشبابة والعود والدف، وأضافوا إليها الألحان والأنغام، ماذا عند ابن الجوزي؟ ماذا كان في أيامهم بالنسبة لنا الآن، الآن يسمونها فرقة، وعندما يأتون بهم فعلى طائرة خاصة؛ لأنها فرقة، وآلاتها وأمورها، يؤتي لأجل زواج أو بشأن أن (تميت) حفلة من الحفلات، أو تميت أمة من الأمم، تميت قلوب أمة، انظروا هذا الغناء الذي كثير من الناس لا يبالي به، التليفزيون يغني، والإذاعة تغني، والشريط يغني، وهو يغني، حتى لَمَّا يقفل السيارة ويمشي إلى الدكان يغني حتى يصل ليشتري الأغراض، كل الحياة أصبحت غناء نعوذ بالله.

هذا عابد قارئ عالم زاهد، مر بجارية، وكانت لرجل من قريش، فسمع غناءها، فقال له الشيطان: قف قليلاً عند الباب، واستمع إلى هذا الصوت الحسن ثم انصرف.

فأطل مولاها وإذا: بـ عبد الرحمن عند الباب فقال له: هل لك أن تدخل فتسمع، فتأبَّى عليه، فألحَّ عليه الرجل، فلم يزل به حتى وافق، فدخل، فقال: أقعدني في موضع لا أراها ولا تراني، هو الحمد لله ويخاف الفتنة، هذا الذي يقول لك بعض الشباب في مجال الطب وفي مجال الخطوط الجوية، وما أدري أين: نحن نحاول أن نبعد عنها، الحمد لله الواحد يجتهد ما استطاع؛ لكن القضية أن النساء فتنة (ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء)، وهو الذي بالمؤمنين رءوف رحيم صلوات الله وسلامه عليه، شفيق على هذه الأمة، وحذر من هذه الفتنة، المال والنساء، لا يقول واحد: والله ما يمكن أن أقع في المحظور أبداً.

يبدأ قليلاً قليلاً، يأخذ الذي يبقى من الهلل في الصندوق، وفي النهاية يأكل نصف المشروع، بدأت بالهلل؛ لكن انتهت بالمليارات والملايين، وكذلك الزنا -نعوذ بالله- والفواحش، أولاً نسمع صوتها ثم نجلس ثم بعد ذلك يكون كما قال أحمد شوقي:

نظرةٌ

إلى آخره.

قال: أقعدني في موضع لا أراها ولا تراني حرام أن أراها؛ لكن الصوت هذه المرة ونمشي ولن نعيدها، ما دمتُ أُحرِجتُ ولكن لن أعيدها إن شاء الله.

قال: فدخل فتغنت، فأعجبته، فقال مولاها: هل لك أن أحولها إليك؟ فتأبَّى وامتنع، فلم يزل به أيضاً حتى وافق ما في خلوة، وأنا وإياك موجودون، وما في مشكلة.

فجاءت فجلست أمامه، فلم يزل يسمع غناءها حتى شُغف بها وشُغفت به، وعلم ذلك أهل مكة نسأل الله أن يغفر لنا ويستر علينا.

الخبر السيئ ينتشر في الآفاق -نعوذ بالله، نسأل الله أن يستر علينا ذنوبنا وعيوبنا- فتسامعوا، وإذا بهم يتسائلون: عبد الرحمن القس؟ نعم.

القس سمعها، وصار يصغي لها، وانتشرت في كل مكان.

وأخذ المجرمون والشعراء من ذلك مجالاً للقصائد، كما في كتاب الأغاني وأمثاله، يقولون: الشافعي أفتى، لأن الشافعي قيل له: (هل عليَّ في القُبلة من حرج؟ قال: لا حرج إن شاء الله).

وفلان قال، وفلان، في روضة المحبين ذكر ابن القيم رحمه الله نماذج من كلامهم هذا كثير.

فمن جملتها انتشر الخبر في مكة، العابد الراهب الزاهد تعلق بهذه المغنية.

حتى أنها مرة -بدأ الشيطان ينسج فيما بينهما؛ ولكن أراد الله سبحانه وتعالى أن تكون تلك بداية التوبة والانقطاع- فاتحته وقالت له: أنا والله أحبكَ.

فقال: وأنا والله أحبكِ.

قالت: فما يمنعك من الوصال، فوالله إن الموضع لخال! بدأ الشيطان الآن في العميق ولا يوجد أحد، فقال: إني سمعت الله تعالى يقول: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:٦٧] وأنا أكره أن تكون خُلة ما بيني وبينكِ تئول بنا إلى عداوة يوم القيامة.

قالت: يا هذا! أتحسب أن ربي وربك لا يقبلنا إذا تبنا إليه أوه! عندها فقه، الشيطان فقهها، فتقول: نعمل هذه المعصية الآن وبعد ذلك يتوب الله علينا، أنت حافظ للقرآن وعارف للأدلة، نتوب وكفى وانتهينا.

قال: بلى بلى، يتوب علينا لو تبنا.

قال: ولكني لا آمَن أن أفاجأ انظروا كيف تكون العودة إلى الله.

ثم نهض وعيناه تذرفان، فلم يرجع بعد، وعاد إلى ما كان عليه من العبادة.

سبحان الله! وعاد وهو أشد إيماناً وتقوى وخوفاً على نفسه، وعلى أذنه، وعلى عينه من الفتنة.

هذا أيضاً مثال من الأمثلة الذي تكون فيه هذه الذنوب والموبقات سبباً أو داعياً إلى الخير.