للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[السجود من خصائص الإلهية]

يقول: (إذا عرفت هذا: فمن خصائص الإلهية السجود، فمن سجد لغير الله فقد شبه المخلوق بالله، ومنها التوكل، فمن توكل على غير الله فقد شبهه أيضاً بالله، وقس على ذلك التوبة والحلف، يكون منها الحلف باسمه تعظيماً وإجلالاً).

هذا الكلام لا يقوله الإمام ابن القيم هكذا، لأجل الرد على الواقع في عصره من شيوخ الطرق، فهو يعالج واقعاً مؤلماً مريضاً في عصره، كانوا يستغيثون بالشيخ ويسجدون له، كان بعض المريدين يسجد لشيخه، وآخرهم هذا المهدي الذي ظهر في السودان يدعي أنه المهدي، وعبد الله التعايفي كانوا يسجدون له سجوداً، ويستغيثون به ويتوكلون عليه، والشيخ هو الذي يعلمهم، يقول بعض مشايخهم: الشيخ الذي لا ينقذ مريده أو تلميذه وإن كان في أطراف الأرض أو أوساط البحر ليس بشيخ! يعني: الشيخ هو الإله، تعالى الله عما يصفون! فالذي يستطيع أن ينجي تلاميذه في ظلمات البر والبحر هو الشيخ!! فأصبحوا يتنافسون في ذلك، حتى قال بعضهم: لو جئتم إلى قبري ودعوتموني ولم أغثكم فلست بشيخ، انظروا كيف وصل بهم ادعاء الألوهية! نسأل الله العافية.

والحلف بالشيخ صار أعظم من الحلف بالله، ولهذا يذكر هذه الأمثلة؛ لأنه يعيش ذلك ويعانيه في زمانه.

قال: (فمن تعاظم وتكبر ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم والخضوع والرجاء، وتعليق القلب به خوفاً ورجاءً والتجاءً واستعانة، فقد تشبه بالله، ونازعه في ربوبيته وإلهيته، وهو حقيق بأن يهينه غاية الهوان، وأن يذله غاية الذل، ويجعله تحت أقدام خلقه).

ولهذا جاء في الحديث الصحيح: (يحشر المتكبرون يوم القيامة على هيئة الذر يطؤهم الناس بأخفافهم).

سبحان الله! الجزاء من جنس العمل، الناس يحشرون يوم القيامة على خلق أبيهم آدم، طوله ستون ذراعاً، إلا المتكبرون الذين كانوا يتكبرون على خلق الله، ويرون أن من واجب الناس أن يعظموهم ويبجلوهم ويخضعوا لهم، ويحبوهم ويطروهم ويمدحوهم، هؤلاء يحشرون على هيئة الذر، انظر الفرق! يطؤهم الناس بأقدامهم، جزاءً وفاقاً بما كانوا يصنعون في الدنيا، أياً كان السبب الداعي مال منصب اعتقادات باطلة كشيوخ الصوفية الذين يرون أنه يجب على المريدين أن يعظموهم، وأن يلحسوا أقدامهم وأكفهم وركبهم، أياً كان المتكبر فقد تشبه بالخالق، فإذاً: ينطبق عليه الحديث الذي يقول الله تبارك وتعالى فيه: (العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني فيهما عذبته) ثم يضرب ابن القيم رحمه الله مثالاً: وإذا كان المصور الذي يصنع الصورة بيده من أشد الناس عذاباً يوم القيامة كما جاء في الحديث الصحيح: (من أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون) ما هي العلة؟ القضية ليست قضية أن الشخص صور فقط، يجب أن تطرد العلة في كل من ادعى شيئاً من خصائص الألوهية، أو نازع الله تبارك وتعالى فيما هو من خصائصه تبارك وتعالى.

يقول: فهؤلاء من أشد الناس عذاباً يوم القيامة، لتشبههم بالله في مجرد الصنعة، يخلق كخلقه، يصنع كهيئة خلق الله هذا ما فعله المصور، ومع ذلك فهي جريمة عظمى، وهو من أشد الناس عذاباً يوم القيامة، فكيف من تشبه بالله في الربوبية والإلهية؟ ليس هناك رسمة ولا صنعة، وفي الحديث الصحيح: (لا أحد أحب إليه المدح من الله) فالذي يجب أن يطرى ويمدح ويعظم، وأن تقال له الألقاب هو الله.

ثم قال: (والمقصود أن هذا حال من تشبه به في صنعة صورة، فكيف حال من تشبه به في خواص ربوبيته وإلاهيته؟) وهنا يضرب مثالاً آخر، وهو من الأدلة على أن جانب التوحيد من أعظم ما يراعيه الشرع في كل الأمور، وسد كل الذرائع التي توصل إلى الشرك، فيضرب مثالاً بهؤلاء الناس الذين يحبون الألقاب ينازعون بها الله تبارك وتعالى في ملكه، وفي ربوبيته وإلاهيته.

فيقول: من تشبه في الاسم الذي لا ينبغي إلا له وحده، كملك الأملاك وحاكم الحكام ونحوه وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أخنع الأسماء عند الله رجل تسمى ملك الملوك ولا ملك إلا الله، أو ولا مُلك إلا لله، وفي لفظ أغيظ رجل على الله رجل يسمى بملك الأملاك) مجرد أنه تسمى، قد لا يكون عمل عملاً، أو دعا الناس ليعملوا أعمالاً توجب ألوهيته وربوبيته كقول فرعون: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:٣٨] لكن هذا كل ما قد يكون عمله أنه سمى نفسه باسم لا يجوز إلا لله، ولا يطلق إلا على الله تبارك وتعالى، فهذا استحق أن يكون أخنع الأسماء، وأن يكون أغيظ رجل على الله تبارك وتعالى.

فهذا مقت الله وغضبه على من تشبه به في الاسم الذي لا ينبغي إلا له، فهو سبحانه ملك الملوك وحده، وهو حاكم الحكام وحده، وهو الذي يحكم على الحكام كلهم ويقضي عليهم كلهم لا غيره، إذا تبين هذا فهنا أصل عظيم يكشف سر المسألة.

ثم يفتح لك ابن القيم باباً عظيماً من أبواب العلم، ويؤصل قضية عظيمة بأجمل وأوضح ما يمكن، ثم ينتقل منها إلى قضية أخرى فتجد علماً، لا ينقل كلاماً هكذا ليس له فائدة علم مؤصل مرتب مبني على الأدلة، على نظرة شاملة، وهذه التي لا تجدها عند كثير من العلماء في القديم فضلاً عن المتأخرين، مثل الإمامين ابن تيمية وابن القيم رحمهم الله ومن سار على نهجهما، هذه ميزة للمدرسة السلفية بأنها مدرسة قوية، هذه المدرسة التي جددها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله تبارك وتعالى عليه، وما عمله ابن تيمية ما هو إلا تجديد للمنهج الذي كانت عليه الثلاثة القرون المفضلة، لم يأت بشيء من عنده أبداً.

فالآن ينقلك من سر عظيم بعد أن تجلت عندك هذه الحقيقة العظيمة، حقيقة الشرك وهو هذا التشبيه، ينقلك إلى حقيقة أخرى عظيمة جداً.