للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المقوم الرابع: العدل]

ومن أعظم وأهم مقومات المجتمع المسلم العدل؛ لأن السماوات والأرض إنما قامت بالعدل، وأمر الله تعالى به في القول، وأمر به في العمل، وأمر به في كل شيء، قال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:١٥٢]، وقال: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:٨]، وقال: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن:٧ - ٩]، وغير ذلك كثير، فهذه الأمة أمة العدل.

ولذلك كان من سنة الخلفاء الراشدين ما أمر به عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه حين جعل مكان بعض العبارات التي لا تليق في خطب الجمعة هذه الآية الكريمة العظيمة الجامعة {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل:٩٠].

فالعدل مطلوب من هذه الأمة بالذات، بل من كل أحد، وهو محببٌ إلى النفوس جميعاً، وتطلبه كل الفطر والعقول في المجتمعات كافة، الكافر منها والمؤمن، فكلها تريد العدل، وكلها تدَّعيه، وتحبه وتنشده، ولكن الأمة التي تعرف الحق وهديت إلى الحق وبه يعدلون هي هذه الأمة والحمد لله، التي أعطاها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- العدل لا مبادئ عامة -كما يزعمون- ولكن حقائق وأحكاماً تفصيلية، مفصل لك كيف تعدل في بيتك وكيف تعدل في عملك وكيف تعدل في ولايتك إذا كنت قاضياً أو أميراً؟ فالحكم واضح أمامك.

كل الأحكام فصَّلها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- تفصيلاً في كتابه أو في سنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن سيرة الخلفاء الراشدين، فهي الأمة التي تستطيع وحدها أن تقوم بالعدل في هذا العالم الظالم المظلم الذي أحدقت به الظلمات والمظالم من كل مكان.

وأي أمة في الدنيا الآن تملك العدل أو تستطيع أن تعدل بين أفرادها فضلاً عن العدل بين الناس؟! إن أفضل ما لدى الغرب: هو ما يزعمونه من الديمقراطيات، وأي عدلٍ في الديمقراطيات؟! إننا نأسف أسفاً شديداً أن تصبح هذه الديمقراطيات هي الهدف الذي يتطلع إليه بعض المسلمين! الذين أعطاهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كل هذا العلم والحقائق، وأنزل إليهم الكتاب مفصلاً، فكيف تطلبونها؟! إن الرجل الذي لا يملك المال، لا يملك النفقة الانتخابية، وبالتالي لا يمكن أن يرشح، وبالتالي لن يصل إلى شيء في هذا العالم، فبقدر رأس مال الإنسان في الدول الديمقراطية الغربية، تكون مكانته وقيمته، فأين العدل إذاً؟ إن الضعفاء من العمال ومن طبقة صغار الموظفين مسحوقون مظلومون لا يؤبه لهم بشيء، نعم هناك مبادئ وضعوها وأجمعوا عليها ويحاولون أن يصلوا إلى شيء من العدل وأنَّى لهم ذلك.

إن هذا العدل يجب أن نحييه في هذه الأمة في بيوتنا لنكون من المقسطين كما قال صلى الله عليه وسلم: {إن المقسطين على منابر من نور، عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين وهم الذين يعدلون في أهليهم وما ولوا} هكذا يجب أن نكون، وهذا عدلٌُ تغنَّى به الناس قديماً وحديثاً.

إن ما يعيشه العالم اليوم فهو جاهلية، وإن شئت فقل هذه مثل تلك سواء، من لم يعرف الله أو من جهل الله -عز وجل- فهو في جاهلية في أي عصرٍ كان وفي أي مصرٍ عاش.

كان العرب في الجاهلية يتغنون في أشعارهم بعدل كسرى الذي لم يشملهم يوماً واحداً من حياتهم بعدله، مثلما نجد اليوم العالم الإسلامي والدول العربية تتغنى بعدل الديمقراطية وتفرح بها مع أنه لم يشملها شيء من خيرها إن كان فيها خير، ويقولون لما قتل:

همُ قتلوه كي يكونوا مكانه كما غدرت يوماً بكسرى مرازبه

إلى آخر ما تغنوا به، حتى جاء الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بهذا الدين، فعرف الناس حقيقة العدل، ورحم الله من قال:

أتى عمر فأنسى عدل كسرى كذلك كان عهد الراشدين

نسي الناس عدل كسرى، فما هو عدله بالنسبة إلى عدل عمر رضي الله تعالى عنه وإلى عدل من بعده؟ والقضية ليست قضية عمر، إنها قضية الدين والإسلام الذي حول أولئك الجاهليين من جفاة غلاظ الأكباد إلى أمة رحيمة مشفقة عادلة.

وجاء حفيده عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، وحدث ما حدث من فتح بعض المدن التي هي اليوم ضمن ما يسمونه الاتحاد السوفيتي، ودخل الجيش المسلم بقيادة قتيبة بن مسلم، واقتحم المدينة بعد أن صالح أهلها لكثرة ما غدروا به، فعلم أهلها أن المسلمين أمة العدل وأنهم لا يقرون الظلم، فأتوا إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، وقالوا: بلغنا عنكم العدل، وقد صالحنا قائدكم ثم غدر بنا وفتحها، فلما تبين عمر رضي الله تعالى عنه ذلك؛ أمر الجيش المسلم أن يخرج من المدينة بعد أن فتحها، وقد غدروا به ولم يقل هذا جزاء غدرتكم، فلما خرجوا ورأى أهل المدينة ذلك عياناً، عجبوا لهذا العدل، فقالوا: نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله ودخلوا في الإسلام وما زالت بلاد إسلام، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يفك أسرها.

كان الناس يرون عدل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كما رأت الدنيا كلها هذا العدل الذي هو أحوج ما تكون إليه الأمة اليوم، وظل العدل -ولله الحمد- شيمة هذه الأمة وإن قل عمَّا كان في الصدر الأول.

ولا يزال تاريخ الصليبيين الأوائل عندما اجتمعت أوروبا الصليبية أول مرة -ولا زالت تجتمع في كل مرة- ينطق بعدل صلاح الدين ,ونور الدين وقد عجبوا من هذه الأمة كيف تعيش هذه الحياة الكريمة؟ وكيف تعدل هذا العدل الذي هو من شيم الأنبياء لا من شيم ملوك الدنيا كما عبَّروا هم بذلك، وكثيرٌ منهم بقي في بلاد العالم الإسلامي، وأسلم لما رأى تلك الحياة الكريمة، وتلك العدالة التي تنشدها النفوس ولم تجدها إلا في ظل هذا الدين.