للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المرجع القانوني]

قوله: 'إعداداً وإمدادا، ً وإرصاداً وتأصيلاً وتفريعاً، وتشكيلاً وتنويعاً، وحكماً وإلزاماً، ومراجع ومستندات'.

هذا دليل على أن الشيخ رحمه الله لديه خبرة ومعرفة جيدة بواقع المحاكم القانونية، فإنها -كما ذكر- وضعت ورتبت كما لو كانت محاكم شرعية، من حيث المراجع والمصادر والإمداد والسجلات والأنواع، وهذا شيء عجيب جداً! فتجد في أكثر بلاد العالم الإسلامي مثل هذه المحاكم، محاكم ابتدائية -كما يسمونها- ثم محاكم النقض! أو المحاكم الاستئنافية التي تستأنف عندها الأحكام، وتنقض أحكام المحاكم التي دونها، وهناك فوق ذلك المحكمة العليا، أو المحكمة الدستورية، أو المجلس الأعلى للقضاء -وبلا شك القضاء غير الشرعي- وهناك محاكم إدارية، ومحاكم تجارية، ومحاكم مدنية، ومحاكم جزائية، ومحاكم عمالية، ولها مراجع ومصادر ويرجعون إلى أصول القوانين التي استمدت منها القوانين.

فتجدهم يقولون: قد رجعنا إلى ما قاله الفقيه فلان -يسمون أصحابهم فقهاء- وما قاله القانوني فلان وفلان، ورجعنا إلى أصل هذه المادة في القانون الفرنسي، فوجدنا فيها كذا، ثم وجدنا كذا، وبناءً عليه حكمنا بكذا، فيرجعون رجوعاً صريحاً واضحاً إلى ذلك.

بل إن الأمر تجاوز هذا، فترى الكليات القانونية التي بدأت بفروع وبأقسام صغيرة، ثم في النهاية أصبحت كليات مستقلة للقوانين من بعد المرحلة الثانوية التعليمية إلى الدكتوراه، ولها أساتذة متخصصون، ولها مراجع ولها استمدادات، ثم بعد ذلك يتخرج الطالب من الكلية التي يسمونها كلية الحقوق أو كلية القانون، ويتعين في درجة دنيا من درجات السلم القضائي، ثم يرتفع ويترقى حتى يصبح في المحكمة العليا، أو رئيساً للمحكمة العليا وهو المنصب الأعلى في تلك البلاد التي تحكم بغير ما أنزل الله، نسأل الله العفو والعافية.

فهذا فيه -كما ذكر الشيخ- مكابرة ومعاندة ومشاقة ومضاهاة لحكم الله، وللمحاكم الشرعية، فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع ومستمدات، ومرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلهذه المحاكم -أيضاً- مراجع هي: القانون الملفق من شرائع شتى، وقوانين كثيرة كالقانون الفرنسي، والقانون الأمريكي، والقانون البريطاني.

وقد سبق أن بينا أن أكثر القوانين في العالم العربي والدول الإسلامية تستمد من القانون الفرنسي وأشباهه كالقانون السويسري؛ لأنها قوانين تعتمد وتقوم على التقنين وهو التشريع المكتوب الذي يفصل في مواد قانونية.

أما القانون الأمريكي أو الإنجليزي -والأمريكان تبع للإنجليز في هذا- فهو لا يقوم على الكتابة القانونية المفصلة، فالشرع والحكم عندهم يعتمد على نظام السوابق، العرف القضائي، وما تعارفت عليه المحكمة، ولذلك إذا جاءت قضية ينظرون: هل سبق أن حكمت المحكمة ولو قبل ثلاثين سنة أو أربعين أو أكثر في مثل هذه القضية؟ فإن وجدوا لها سابقة حكموا بمثل ما حكم من قبلهم، وإن لم يجدوا لها سابقة فإنهم يجتمعون ويقررون، ثم يصبح هذا الحكم سابقة لمن بعدهم ويبنى عليه ويقاس عليه في المستقبل.

يقول: ' ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة، وغير ذلك '.

وأيضاً قد يخلطون مع القوانين الوضعية، الأخذ من مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة، فقد ينتسب بعض الناس إلى الشريعة ويأتي ببدع في الأحكام، وهذا -مع الأسف- هو النموذج الذي يراد له الآن أن يظهر وأن ينتشر في العالم الإسلامي، مثل بدعة (الإسلام العصري) وهذه البدعة الخطيرة معناها أن الإسلام يزيد لمصلحة العصر.

أو يضفي عليه ثوب العصر، أو يطور ليلائم العصر، أو ما أشبه ذلك من العبارات، وهذه الدعوة الخبيثة لا تنكر النص القرآني، لكنها تفقده قيمته ومعناه بما تحوره ليوافق كما يزعمون "روح العصر".

فهم ليسوا دعاةً بالضرورة إلى تحكيم القوانين الوضعية مباشرةً، لكن يقولون: الفتوى تتغير بتغير الأحوال والأزمان، فالحدود يمكن أن توقف في بعض الأحيان، وبعض الأحكام لا بد من تعديلها وإعادة النظر فيها، وبعض القضايا لابد من الرجوع فيها إلى أقوال معينة ولا نلتزم بأقوال، حتى قالوا لو وجدنا ما يوافق العصر في أقوال الزيدية أو الهادوية أو الجعفرية الرافضة -لعملنا به، لأننا عندما نلتزم بأن نأخذ برأي الجمهور، أو المجمع عليه، ونترك ما شذ عن هذا الإجماع، فهذا قد يكون فيه تضييع، وربما يكون الإجماع قائماً على شيء لا يوافق العصر ولا يتماشى مع روح الحياة الحديثة، ويكون القول الشاذ أو المرجوح، أو الذي قالت به إحدى الطوائف، أو أحد المجتهدين في عصور التاريخ الطويلة هو الأفضل.

مثلما يأخذون عن هذا الرافضي الطوفي -والغريب أنه كان حنبلياً أشعرياً رافضياً- وكم فرح هؤلاء القوم بمقولته: إن المصلحة تقدم على النص الشرعي!! فأخذوا بها وظلوا يؤصلون لها ويروجون لها.

فهؤلاء المبتدعون المنتسبون إلى الشريعة يحسن ويحلو للقانونيين أن يأخذوا منهم؛ لأنهم في الحقيقة لا يختلفون كثيراً عن أصحاب القوانين الوضعية، الذين يريدون أن يوفِّقوا بين هذا الدين وبين لوازم أو متطلبات الحياة الحديثة، فيبقى الدين نصوصاً مكتوبة يقرأها الناس ويتبركون بها لا غير وهو في الواقع يؤوَّل ويحرف الكلم عن مواضعه، فمنها ما يُلغى، ومنها ما يلوى عنقه، ومنها ما يغير عن حقيقته، والمقصود واحد من الجميع وهو الذي ذكره الله تعالى عن المنافقين من أنهم يقولون: {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} [النساء:٦٢].