للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أهل الذمة في عهد أبي جعفر المنصور والمهدي]

قال: "وأما أبو جعفر المنصور، فإنه لما حج اجتمع جماعة من المسلمين إلى شبيب بن شيبة، وسألوه مخاطبة المنصور أن يرفع عنهم المظالم، ولا يُمكن النصارى من ظلمهم وعسفهم في ضياعهم، وأن يمنعهم من انتهاك حرماتهم وتحريهم؛ لكونه أمرهم أن يقبضوا ما وجدوه لبني أمية، فقال شبيب: فطفت معهم عند الكعبة فشبك أصابعه على أصابعي، فقلت: يا أمير المؤمنين! أتأذن لي أن أكلمك بما في نفسي؟ فقال: أنت وذاك، فقلت: إن الله لما قسم أقسامه بين خلقه، لم يرض لك إلا بأعلاها وأسناها، ولم يجعل فوقك في الدنيا أحداً؛ فلا ترض لنفسك أن يكون فوقك في الآخرة أحد!! يا أمير المؤمنين، اتق الله! فإنها وصية الله إليكم جاءت، وعنكم قبلت، وإليكم تؤدى -أي: الوصية بالتقوى- وما دعاني إلى قولي هذا إلا محض النصيحة إليك، والإشفاق عليك، وعلى نعم الله عندك اخفض جناحك إذا علا كعبك، وابسط معروفك إذا أغنى الله يديك يا أمير المؤمنين! إن دون أبوابك نيراناً تتأجج من الظلم والجور، لا يعمل فيها بكتاب الله ولا سنة نبينه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

يا أمير المؤمنين! سلَّطت الذمة على المسلمين، فظلموهم، وعسفوهم، وأخذوا ضياعهم، وغصبوهم أموالهم، وجاروا عليهم، واتخذوك سلماً لشهواتهم، وإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاًَ يوم القيامة فقال المنصور: خذ خاتمي فابعث به إلى من تعرفه من المسلمين وقال: يا ربيع، اكتب إلى الأعمال، واصرف من بها من الذمة، ومن أتاك به شبيب فأعلمنا بمكانه لنوقع باستخدامه'.

أي: خذ هذا الخاتم فأتني بولاة من الثقات وأنا أصرف النصارى وأجعلهم محلهم، فقال شبيب: يا أمير المؤمنين! إن المسلمين لا يأتونك، وهؤلاء الكفرة في خدمتك، فإن أطاعوهم أغضبوا الله، وإن أغضبوهم أغروك بهم، ولكن تولي في اليوم الواحد عدة، فكلما وليت رجلاً عزلت آخر' قال: 'وأما المهدي فإن أهل الذمة في زمانه قويت شوكتهم، فاجتمع المسلمون إلى بعض الصالحين، وسألوه أن يعرفه بذلك وينصحه، وكان له عادة في حضور مجلسه، فاستدعي للحضور عند المهدي، فامتنع، فجاء المهدي إلى منزله وسأله السبب في تأخره -أي: أن الشيخ لم يحب أن يذهب إلى المهدي فانقطع عن مجلسه- فجاءه الخليفة وقال له: لماذا لم تأتِ إلى مجلسي 'فقص عليه القصة، وذكر اجتماع الناس إلى بابه متظلمين من ظلم الذمة، ثم أنشده:

بأبي وأمي ضاعت الأحلام أم ضاعت الأذهان والأفهام؟!

من صد عن دين النبي محمدٍ أله بأمر المسلمين قيام؟!

إن لا تكن أسيافهم مشهورةً فينا فتلك سيوفهم أقلام!

' يقول: هذا حين كان النصارى يحاربون الإسلام بالأقلام؛ لأنهم يكتبون في الدواوين فقط، فكيف إذا كان أكثر؟! ثم قال: يا أمير المؤمنين! إنك تحملت أمانة هذه الأمة، وقد عرضت على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها ثم سلمت الأمانة التي خصك الله بها إلى أهل الذمة دون المسلمين! يا أمير المؤمنين! أما سمعت تفسير جدك - عبد الله بن عباس - لقوله تعالى: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:٤٩] أن الصغيرة التبسم، والكبيرة القهقهة؟! فما ظنك بأموال المسلمين وأماناتهم وأسرارهم؟! وقد نصحتك وهذه النصيحة حجة عليَّ ما لم تصل إليك، فولَّى عمارة بن حمزة أعمال الأهواز وكور دجلة وكور فارس، وقلد حماداً أعمال السواد.

وأمره أن ينزل إلى الأنبار وإلى جميع الأعمال، ولا يترك أحداً من الذمة يكتب لأحد من العمال، وإن علم أن أحداً من المسلمين استكتب أحداًَ من النصارى، إلا قطعت يده فقطعت يد شاهونة، وجماعة من الكتاب'، الذين أبوا إلا أن يكونوا كتاباً قطعت أيديهم، حتى لا يقول أحد من المسلمين: إن هذا عنده خبرة، فلماذا لانستخدمه ونستكتبه؟! قال: 'وكان للمهدي على بعض ضياعه كاتباً نصرانياً بـ البصرة، فظلم الناس في معاملته، فتظلم المتظلمون إلى سوار بن عبد الله القاضي -ويلاحظ دائماً أن الأمة في أي وقت تقع عليها المصائب والمشاكل، فيرجعون بعد الله تعالى، إلى العلماء والقضاة فهذا واجبهم- فـ سوار بن عبد الله كان قاضي البصرة فأحضر وكلاء النصراني واستدعى بالبينة، فشهدت على النصراني بظلم الناس وتعدي مناهج الحق ومضى النصراني فأخذ كتاب المهدي إلى القاضي بالتثبت في أمره، فجاء البصرة ومعه الكتاب وجماعة من حمقى النصارى، وجاءوا إلى المسجد، فوجدوا سواراً جالساً للحكم بين المسلمين.

فدخل المسجد، وتجاوز الموضع الذي كان يجب الوقوف عنده؛ لأن عنده كتاباً من الخليفة فتعدَّى وتجاوز فمنعه الخدم، فلم يعبأ بهم وسبهم ودنا حتى جلس عن يمين سوار، ودفع له الكتاب، فوضعه بين يديه ولم يقرأه، وقال: ألست نصرانياً؟ فقال: بلى، أصلح الله القاضي، فرفع رأسه، وقال: جروا برجله، فسحب إلى باب المسجد، وأدَّبه تأديباً بالغاً، وحلف ألَّا يبرح واقفاً إلى أن يُوفِّي المسلمين حقوقهم.

فقال له كاتبه: قد فعلت اليوم أمراًَ يخاف أن يكون له عاقبةً -أي: يخشى أن يكون له عاقبة عند النصارى، أو عند الخليفة، فقال: أعز أمر الله يعزك الله ولا تخف من أحد".