للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[البطر من أسباب الانهيار]

من الأسباب الأخرى والعوامل التي تنخر في كيان الأمم والشعوب البطر والملل من الحياة الرغيدة الهنيئة، فقد ذكر الله تعالى لذلك مثالاً لأمة عجيبة ذكرها القرآن تفصيلاً وهي سبأ: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:١٦] جنة عن يمين وجنة عن شمال كلوا واشربوا من هذه النِعم، بلدة طيبة معطاءة، ورب غفور يغفر الخطايا، استغفروا وكلوا وتمتعوا، فماذا كانت النتيجة؟ أعرضوا! وهذا الإعراض هو الذي دمر الأمم، فماذا كان من تلك الجنات؟ وأين ذهبت؟ {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ:١٦].

لقد رأيت هذا بعيني، وإنها لعبرة لمن يذهب إلى هنالك، وأنت ترى ما ذكره الله من الأثل والسدر القليل، في تربة يزيد سمكها عن عشرة أمتار، من أجود أنواع التربة، ولا ينبت فيها شيء إلا الأثل وشيء من سدر قليل، كما أخبر الله، والماء يجري إلى اليوم، وإذا جاء السيل فإنه يجري جرياناً كأنه نهر عظيم، والتربة خصبة ولا يوجد إلا أثل وشيء من سدر قليل، فالذنوب وأثرها يتعدى إلى الأرض فلا تنتج بل تجدب، يتعدى إلى الدواب، فتعذب البهائم بالقحط، وتعذب بالزلازل والغرق، فما ذنب البهائم؟! لا ذنب لها، ما الذنب إلا ذنب من عصى الله عز وجل وجاهر الله تبارك وتعالى بالمعاصي وأعلنها، فهذا هو البطر.

ماذا قالت سبأ لما بطرت النعمة: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} [سبأ:١٨] حكمة من الله ورحمة منه أن أعاد لهم مرة ثانية شيئاً من الخير في الأرض، وجعل بينها وبين القرى التي بارك فيها - بلاد الشام - قرىً ظاهرة {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} [سبأ:١٨] تجارة وأمن وقرى ظاهرة، تمشي في الصباح من قرية وتبيت في قرية، فماذا قالوا؟ {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} [سبأ:١٩] يريدون المشقة والتعب ويريدون أن يتذوقوا متعة الرحلات.

فحالة البطر والملل التي تصيب الإنسان معروفة اليوم حتى عند علماء النفس والاجتماع، لو وجدت شاباً نشأ في ترف لا تصادفه أي مشكلة أبداً، كل شيء مهيأ له تجد أنه يحاول أن يفتعل مشكلة كبيرة يجرها على نفسه أو على أبيه أو على المجتمع، حتى يعاني من مشكلة، فهو لا يريد أن يعيش من دون مشاكل.

هذه حالة هؤلاء القوم {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} [سبأ:١٩] أين هم؟ لم يبق من أولئك القوم إلا أحاديث يتحدث بها في المجالس، ذكريات عابرة، هذا الذي بقي من أمة عظيمة كانت تطغى وتتجبر على خالق الأرض والسماء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما عصت الله عز وجل {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّق} [سبأ:٩] فهذه حالتهم.