للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المفاضلة بين المخلوقات]

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: إن الله تبارك وتعالى خالق كل شيء، خلق الإنسان، وخلق الملائكة، وخلق الليل والنهار، وهو كما قال عز وجل: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:٦٨].

فاختار الله تبارك وتعالى من فضَّله على غيره من مخلوقاته.

فاختار محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفضَّله على سائر البشر، وفضَّل بعض النبيين على بعض.

واختار هذا البلد الحرام مكة وفضلها على جميع الأرض.

واختار جبريل عليه السلام وفضَّله على الملائكة.

واختار أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفضلهم على جميع الأمة.

واختار من الأزمان كما اختار من الأمكنة، فاختار هذا الشهر العظيم -شهر رمضان- وفضله على سائر الأيام والشهور.

واختار -أيضاً- من هذا الشهر العشر الأواخر.

واختار من العشر ليلة القدر، فليس في ليالي السنة ليلةٌ هي أفضل من ليلة القدر، وليس هناك من ليالٍ هي أفضل من الليالي العشر.

وأما الأيام؛ فإن أفضل أيام العام أيام العشر الأول من شهر ذي الحجة، فتلك أفضل الليالي وهذه أفضل الأيام، كما رجح ذلك بعض العلماء، ومنهم شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية -رحمه الله- جمعاً بين الأقوال في التفضيل.

وذلك أن لهذه الليالي من ليالي رمضان فضل عظيم اختصت به من حيث العبادات، كما أن أيام الحج امتازت عن سائر الأيام بكثير من العبادات {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:٦٨].

والله تبارك وتعالى جعل الليل والنهار يتعاقبان كما قال: {خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:٦٢] فالإنسان يتبلد إحساسه ويغفل، إذا كان على حالة واحدة، فإذا تغيرت الحالة بحالة أخرى، كان ذلك أدعى إلى أن يفكر ويستيقظ وينتبه!! وجعل الله تبارك وتعالى فصلاً للحر، وفصلاً للبرد، وبين ذلك فصلان؛ لكي يتذكر الإنسان.

قال تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} [الفرقان:٦٢] فهذه ذكرى حاضرة، ثم قال: {أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:٦٢] أي: أن يشكر الله تبارك وتعالى، والشكر يشمل جميع العبادات والطاعات.

والإنسان لو تأمل في أمر واحد من هذه الأمور لكفى، فلو أن الخلق تأملوا في طلوع الشمس وفي غروبها، وفي إدبار الليل وإقبال النهار، لكفاهم ذلك، ولكانت ذكرى وأيما ذكرى.

لكن القلوب إذا تعودت شيئاً غفلت عنه ونسيته، فقليل من الناس من يُفكر ويعتبر بمرور الليل والنهار؛ لماذا؟! لأنه أمر متكرر، ولكن أولياء الله وعباد الرحمن، ومن كان قلبه معلقاً بالدار الآخرة لا تزيدهم إلا عبرة وعظة، فتتجدد لهم العبر والعظات بتجدد الليالي والأيام.

فما هذه الأيام والليالي إلا رواحل، تنقلنا من دار إلى دار، وتقربنا من دار هي الدار الآخرة، وتباعدنا عن هذه الدار الدنيا، لكن من الذي يستشعر ذلك؟! وكما قال بعض السلف: الأيام والليالي خزائن، فضع في خزينتك ما شئت، فسوف تلقاه.

فإن وضعت ذهباً وفضة، وجدت النهاية هناك ذهباً وفضة، وإن وضعت تراباً أو فحماً أو حصىً، وكذلك فإن الخزائن هناك إذا فتحت تجد فيها ما وضعت، فهذه الليالي والأيام هي بهذه المثابة.