للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شبهة القدرية المجوسية]

والشبهة المجوسية في القدر هي شبهة الذين قالوا: كيف يخلق الله عز وجل الخلق، وكيف يخلق الأفعال في الإنسان ثم يحاسبه ويجازيه عليها؟ فقالوا: إذاً ننكر ما سبق، ونقول: الإنسان هو الذي يخلق فعل نفسه؛ وهؤلاء قد كذبهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيها في قوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:٦٢] وفي قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:٩٦] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي خلقهم.

وهؤلاء القدرية من النوع المجوسي- القدرية المجوسية - يثبتون خالقين: إله النور (خالق الخير)، وإله الظلمة (خالق الشر) قالوا: فعل العبد من الطاعات خلق الله، وأما المعاصي فهي من خلق العبد حتى لا ننسبها إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فماذا قال فيهم السلف ومنهم الإمام أحمد رحمه الله؟ وعلم الصحابة وعلم السلف علم كلماته قليلة لكن تحتها علم كثير غزير، فكيف ناظروهم، وكيف جادلوهم؟ هل بكتابة أربع أو خمس مجلدات في فلسفات طويلة في القدر؟! لا، بل على نفس منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فناظروهم بجواب شاف كافٍ بأوجز الكلمات، قال الإمام أحمد رحمه الله وغيره من السلف: 'ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خُصموا، وإن أنكروه كفروا'.

فأول ما نبدأ معه أن نقول له: ماذا تقول في العلم؟ هل علم الله عز وجل أنك تفعل هذا أم لا؟ فإن أقر به خُصم وقُطع، فتقول: هل علمه؟ فيقول: نعم.

فهل كتبه؟ يقول: نعم.

فهل شاءه؟ يقول: نعم.

فهل خلقه؟ يقول: لا.

فنقول: لا.

أنت مخصوم ومحجوج، لأنه علمه وكتبه وشاءه وخلقه! فما هو المانع؟ لماذا تؤمن بثلاث مراتب والرابعة تتركها؟ لا يمكن هذا.

إذاً: فهم إن أقروا بالعلم خُصموا، وإن أنكروه وقالوا: لم يعلمه -عياذاً بالله- فهذا كفر، فبعد ذلك ليس هنالك حاجة أن تتناقش معهم؛ فكون الله عز وجل يعلم كل شيء، هذه حقيقة بديهة يعلمها جميع المؤمنين بل حتى من الأمم الكافرة يعلمون أن الله يعلم بكل شيء، وكل من يقر بوجود الله يعلم أنه يعلم بكل شيء.

فمن يقول لك: لا.

لم يعلم الله كل شيء! ولم يعلم أفعالي! فهذا بدون جدال هو كفر، ونكفره على أمر بين، لا على أمر قد تدخله الشبهة، فنكفره بأمر بين واضح، وهو إنكار العلم الذي لا يخفى على أي مؤمن، ولهذا نجد أن السلف الصالح ذكروا في كتبهم عن القدر حقائق وقصصاً ووقائع مما يوضح المراد، ولتعرف الفرق بين المؤمنين بالقدر وبين القدرية بأنواعهم.

فقد ذكروا أن رجلاً جاء إلى عمرو بن عبيد وهو زعيم القدرية المعتزلة الأولين، وهو الذي أظهر مقالة معبد الجهني؛ لأن -كما تعلمون- أول من أظهر القدرية بعد معبد الجهني في البصرة هو غيلان الدمشقي الذي كان في المدينة ثم انتقل إلى دمشق، فتلقفها عمرو بن عبيد.

وعمرو بن عبيد كان من النوع الذي يؤمن بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يرد الشر، فليس عنده إرادة، إلا إرادة واحدة، وليس كما قلنا: إن الإرادة إذا كانت بمعنى المشيئة المطلقة فلها حكم، وإن كانت بمعنى المحبة فلها حكم آخر، فعنده إرادة واحدة، وكان من العباد الزهاد جداً، فجاءه أعرابي بدوي لا يعرف شيئاً من الدين، وقال: دلوني على رجل صالح، وكان هذا الأعرابي قد ضاعت منه ناقته، فجاء يبحث عن رجل صالح يدعو الله له أن يعيد له ناقته، فدلوه على عمرو بن عبيد، وقالوا: هذا رجل زاهد وعابد فاطلب منه أن يدعو الله لك، فجاء إلى عمرو فقال له: مالك؟ قال يا عمرو: إن ناقتي قد ضاعت وفقدت ولا أدري من الذي أخذها فادع الله لي؟ فقال عمرو بن عبيد: اللهم إنك لم ترد أن تُسرق ناقته، فردها عليه! فالأعرابي بفطنته رأساً قال: لا حاجة لي في دعائك، فقالوا له لماذا؟ قال: ما دام أنه قد أراد ألا تسرق فسرقت، فأخشى أن يريد أن ترجع فلا ترجع! فالإرادة عند عمرو بن عبيد إرادة واحدة فقط.

ولهذا يقال: إن مجوسياً وقدرياً أيضاً ركبا في سفينة، وأخذا يتجاذبان في القدر، فقال المجوسي للقدري: الشيطان لما فعل وعصى هل فعل ذلك بقدر من الله؟ فقال القدري: لا.

قال: إذاً غلبه.

-عياذاً بالله- فقال له: لم لا تسلم؟ قال: أنا مع أقواهم.

أي: على كلامك أن الله لم يرد أن يكفر الشيطان وكفر فاتركني أكون مع القوي!