للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بداية تدوين القانون]

ومع ذلك فإن التاريخ القديم قد سجل لنا بعض الأحكام التي وجدت والتي ربما نقشت أو كتبت، ومن أشهرها قوانين الملك الآشوري القديم حمورابي، والتي يعتبرها القانونيون أساساً للتشريع الحديث، وأن هذا الرجل من تجديداته وإبداعاته أنه وضع شرائع، فالرجل إذا قتل رجلاً أو سرق ثوراً فله حكم كذا وكذا من العقوبة، ويجعلون هذا عصراً جديداً للتقنين ولمعرفة الأحكام، بينما نحن نعتقد أن هذه القوانين -على ضئلتها وقلتها- ما كان فيها من خير وحق فإنه يحتمل أن يكون أُخِذها عن شريعة نبي لم يذكر، وإما من بقايا كتب ورسالات أنزلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإما أن يكون اجتهاداً ووافق بعض الصواب، ثم جاء بالباقي من عند نفسه كأي طاغوت من الطواغيت يضع من عنده تشريعات، فنجد فيها ما يوافق الحق أحياناً اتفاقاً، وأما الباقي فهو مردود عليه، ولا يعد ذلك فتحاً ولا تجديداً، وإنما يعد انحرافاً واحتكاماً إلى الطاغوت، ولو أنهم رجعوا إلى دين الله وإلى شرعه لوجدوا خيراً كثيراً، فكل أمة أنزل الله تبارك وتعالى لها من الشرع والدين ما يكفل لها حياتها ونظامها.

ثم في التاريخ الوسيط -كما يسمونه- القرون الوسطى، نجد أن أشهر من وجدت عندهم من الأمم التشريعات والقوانين المكتوبة هم الرومان، ولذلك إلى الآن يقولون: إن القانون الروماني هو أفضل وأوسع وأشمل أنواع القوانين المعروفة في القرون الوسطى، لأنهم لا يعدون شريعة الإسلام ودين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شرعاً، ولا يعترفون به مع أنه كان يحكم الحياة جميعها، وهو تشريع مكتوب أيضاً.

فالمقصود أن المرحلة الثانية هي مرحلة تدوين القوانين، وأنها أول ما ابتدأت بشكلها القريب من المعاصر في عصر الامبراطورية البيزنطية أو الامبراطورية الرومانية، وأشهر هذه القوانين قوانين الامبراطور جوستنيان الذي ظهر في أوائل القرن السابع، أو في أواخر القرن السادس الميلادي، فهو معاصر لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقريباً، وبلغت الامبراطورية الرومانية في عصره شأناً عظيماً، وكتبت القوانين المسماة قوانين جوستنيان.

وكان دينهم في ذلك الزمان هو النصرانية؛ لأن النصرانية دخلت إلى أوروبا عام (٣٢٥م) والامبراطور الذي اعتنق النصرانية وأدخلها في بلاده هو قسطنطين، وهو الذي جمع الأساقفة واختار دين التثليث، وترك مذهب التوحيد.

وأخذ هذا الدين المنحرف من المحرف الأكبر شاؤول الذي غير اسمه إلى بولس اليهودي.

وهنا نعرف قضية بني إسرائيل، فعيسى عليه السلام كان رسولاً إلى بني إسرائيل خاصة بنص القرآن، وكما في الأناجيل أيضاً يقول: 'إنما بعثت إلى خراف بيت إسرائيل الضالة'.

ولهذا يذكرون قصة المرأة الفينيقية أو السورية التي ذكرت في الأناجيل المحرفة أنها جاءت إلى عيسى عليه السلام واشتكت أن فيها روحاً شريرة، أي بها مس من الجن وقالت: يا روح الله! عالجني أو أعطني مما أعطاك الله، فقال: يا امرأة من أين أنت؟ فقالت: فينيقية، أو قالت: سورية.

فقال لها: 'إنما بعثت إلى خراف بيت إسرائيل الضالة' فبكت وتضرعت، وقالت: إن لم تعطني الخير فمن أين أذهب؟ حتى آواها ورضي أن يعلمها وأن تكون من المدعوين.

فالشاهد أن عيسى عليه السلام أنزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إليه الإنجيل مكملاً لما بين يديه من التوراة، وفيه زيادة أحكام مثل: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:٥٠] وفيه تخفيف من الآصار والأغلال التي كانت على اليهود، وفيه تحليل بعض ما كان محرماً في شريعة التوراة، فهو كتاب مكمل في حدود بني إسرائيل، هذه القضية الأولى.

والقضية الأخرى: أنه هل وصل هذا الكتاب نفسه -مع أنه لم يكن تشريعاً للعالم كله- إلى الرومان أو إلى غيرهم كما أنزله الله؟ فقد وقع التحريف والطمس والتبديل والتغيير على يد بولس وعلى يد أناس آخرين.

حتى أنه مرت مراحل كثيرة كان الامبراطور يأمر بكتابة الإنجيل من جديد وحذف ما لا يكون مناسباً، فيأتي الأحبار والرهبان الكبار ويكتبون ويحرفون الكلم عن مواضعه {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:٧٩] كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنهم، فلم يكن الإنجيل شرعاً عاماً، وما نراه اليوم من انتشار المنصرين في جيمع أنحاء العالم وطبع الإنجيل إلى أكثر من ألف ومائتي لغة، كل ذلك خارج عن الأصل الذي بعث الله تبارك وتعالى عيسى عليه السلام من أجله، حتى لو كانوا يدعون إلى الإنجيل الحقيقي، فهو لم يكن شرعاً عاماً، ولا ديناً للإنسانية عاماً هذا أولاً.

والأمر الآخر أنه لم يصل إلى تلك الأمم الإنجيل الحقيقي، إذ قد حرف وبدل، ومع ما فيه من تحريف، فلا يوجد فيه من التشريعات والتنظيمات ما يكفل الحياة؛ لأن الناس إذا حرفوا شيئاً وطمسوه وبدلوه لا يمكن أن تكون فيه الديمومة والمنفعة الكاملة، وعليه فإن الأناجيل الموجودة بالجملة ليس فيها تشريعات كافية، مع العلم أن هذه الكتب أنزلت محدودة في الزمان والمكان إلى بعثة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعندما أنزل الله القرآن وأرسل محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ:٢٨] {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:١٠٧] لم يعد يُعمل بكتاب غير القرآن الذي أنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والاحتكام إنما يكون إليه فقط.

ولما لم تجد الدولة النصرانية الكفاية في تسيير شئون حياتها وتلبية احتياجات الناس بسبب النقص الحاصل في التوراة، ووجدت نفسها أنها في حاجة إلى تنظيمات وإلى تشريعات، ووجدوا أن لهم أعرافاً وقوانين وأنظمة فجاء جوستنيان وأمثاله فنظموها، ثم كتب بعد ذلك عدة قوانين وانتشرت حتى سمي القانون الروماني، وهذه قصة التاريخ أو التقنين في العصور الوسطى كما يسمونها.