للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[صبر الصحابة]

السؤال

ذكرتم أن الصحابة كان عندهم قوة في تحمل الواردات، كما كان لديهم من الله فتح ما لم يكن لمن كان بعدهم، ولكن كما تعلمون قصة وقوع عمر بن الخطاب مغشياً عليه من إحدى الآيات التي كان يقرؤها في الصلاة فكيف توجهون ذلك؟

الجواب

هذا لا إشكال فيه، وإنما المقصود أن من تقرب إلى الله تبارك وتعالى وقرأ القرآن وأكثر من تلاوته وأكثر من ذكر الله عز وجل فإن الله يفتح عليه معاني الإيمان، وتجِدُّ على قلبه حقائق إيمانية، فإذا سمع الآيات من القرآن ازداد إيماناً ويقيناً، وفتح له أمور أو حقائق قد لا يستطيع أن يعبر عنها أكثر الناس، لكنه يجدها في نفسه.

وهكذا كلما تفكر المسلم في خلق الله، وكلما ذكر الله، وكلما تذكر الآخرة والموت، وما أعد الله، ازداد إيماناً، وتجلت له حقائق ومعانٍ عظيمة، فمن الناس من يحتملها لقوة أعطاها الله إياه وهم الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- الذين كانوا في جاهليتهم لا يُذكرون ولا يُعدون شيئاً؛ فلما هداهم الله تعالى للإيمان، أحيا الله قلوبهم بهذا القرآن فأصبحت ينابيع الحكمة تتفجر في قلوبهم، ويظهر ذلك في أقوالهم وأعمالهم وسمتهم وهديهم ودلّهم، بما لا يشك عاقل أن هذا من أثر النبوة ومن أثر القرآن.

ولهذا لما رآهم أهل الكتاب في دمشق ومصر وغيرها، قالوا: نشهد أنَّ هؤلاء يتخلقون بأخلاق الأنبياء الذين يقرءون عنهم، وهذا فضل من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليهم، أن كانت لهم هذه المعاني وهذه الحقائق، فالصلاة -مثلاً- في مظهرها الخارجي يصلونها مثلنا ركوعاً وسجوداً، والقرآن يقرؤنه كما نقرؤه نحن إن كان مجرد أداء حروف، لكن الحقائق الإيمانية التي هي الأساس تختلف عندهم.

فإذن أوتوا مع ذلك قوة التحمل، وجاء من بعدهم من التابعين فكانوا إذا وردت عليهم بعض هذه الواردات لا يتحملون، فتجد أن المعنى نفسه لو ورد على قلب أحد التابعين لسقط -مثلاً- مغشياً عليه، أو تأثر، أو قد يصاب بعضهم بشيء؛ لأن بعض الناس قد يصاب بما يشبه الجنون، أو لا يستطيع أن يتحمل، ليس لأنه مجنون، لكنه ما استطاع ذلك، وقد يعتريه ما يفقده صوابه من شدة استشعاره لهذا المعنى.

فمثلاً: الوقوف بين يدي الله عز وجل خمسين ألف سنة فيقف يتذكر هذا اليوم وهذا الهول، فما يستطيع أن يتحمل، كما نشاهد في واقعنا العادي أن بعض الناس قد لا يتحمل أن يرى -مثلاً- منظر قتل أو حد قصاص يقام يوم الجمعة فيسقط، وبعضهم يراه فلا يتأثر، فالله أعطى النفوس قدرات مختلفة في التحمل.

فالمهم أن أكمل الناس تحملاً في الجملة هم الصحابة ومن جاء من بعدهم؛ ولا نقول: إنهم أكملهم تحملاً للواردات، ولكن لَوْ ورد شيء مما يرد على الصحابة عليهم، لما استطاعوا أن يكونوا أكمل تحملاً، وعلى سبيل المثال ما نقل عن عمر -رضي الله تعالى عنه- إن ثبت أنه مرض أو حُمَّ أياماً لأنه سمع آيات من سورة الطور أو غيرها -مثلاً- هل هذا يناقض ذلك؟ نقول: لا، لأن هذا حالة عابرة عارضة، وإنما كان كلامنا على العموم، فالإنسان القوي الشديد قد يغلب أحياناً، وقد يضعف أحياناً ولاينافي ذلك وصفه بالقوة والشدة والتحمل.

لكن الأصل في ذلك ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعامة الصحابة، فقد كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قرأ القرآن يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل، كأنه القدر الذي يغلي من شدة ما يفتح الله عليه من معارف وعلوم وأسرار، نحن لا نستطيع أن نعبر عنها بالألفاظ التي نستخدمها، إنما ثمرة قراءة الآيات وتأملها وتفكرها وتدبرها تعطي الإنسان مثل هذه الأمور، ومع ذلك فإنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يسقط ولم يغم عليه من أجل آية من الآيات، أما الصحابة فقد وقع ذلك لبعضهم -أحياناً- ولا ينافي الحالة العامة، أما في التابعين فكثر ذلك، ثم في من بعدهم.

وهذا المشاهد في الصوفية، فقد أصبح الواحد منهم يسقط إذا سمع -مثلاً- آية، أو إذا سمع كلاماً عاماً، بل حتى صار بعضهم من شدة ضعف احتماله ورقة حسه، إذا سمع بيتاً من الشعر يسقط مغمياً عليه، يتذكر الأحباب أو الأوطان أو كذا، ويقول: أنا تذكرت الجنة، أو ينوي بهذا البيت الجنة أو دار المقام هناك؛ فيسقط.

وينبغي لنا أن نقتدي بسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما كان عليه الصحابة بقدرما نستطيع فنتفكر في آيات الله وفي ملكوت السماوات والأرض، ونكثر من ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في ملأ أو خالين مع أنفسنا، وفي الحديث: {ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} فهذا من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ففضل عظيم أن نذكر الله وحدنا، وفي الحديث: {إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه}.

فيجب أن نقتدي بهؤلاء، ومع ذلك نقتدي بهم في قوة التحمل، فإذا قرأت آيات من كتاب الله عز وجل وحصلت لك هذه المعاني الإيمانية، فاحمد الله واثبت، ولا تضعف واجتهد أن تكون كذلك من باب:

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إنَّ التشبه بالكرام فلاح

وإلا فلن نحصل على ما يرد على قلوبهم من المعاني الإيمانية العظيمة ولن نكون مثلهم في التحمل، لكن فليكونوا هم قدوتنا الذين نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يحشرنا أتباعاً لهم، وفي زمرتهم إنه على ذلك قدير.